أشهرا قليلة بعد استقلال البلاد من الاستعمار الفرنسي واستقباله من الشعب التونسي، محمولا على الأكتاف، كرمز للمقاومة والجهاد، قرر الحبيب بورقيبة وضع قانون أراد به تغيير وضع المرأة التونسية وزلزلة أركان حيف وظلم لا يستقيم وما كان يطمح إليه “المجاهد الأكبر” من تغيير عميق وسعي نحو المساواة. بعد نقاش طويل، ودعم من بعض الفقهاء المتنورين كالشيخ الطاهر بن عاشور، أصدر الرئيس التونسي في غشت 1956 قانونا للأحوال الشخصية يمنع تعدد الزوجات ويعطي المرأة الأهلية كاملة ويضع الطلاق في يد القاضي. لما طلب بعد المقربين من بورقيبة أن يمر هذا القانون أمام استفتاء شعبي، اعترض على ذلك، معتبرا أنه يدرك أن التونسيين في غالبيتهم سيرفضونه، لمضامينه الثورية، ولكنهم سيترحمون على واضعه سنوات بعد ذلك. وكأن بورقيبة رأى بحدسه وذكائه ما لم يكن يبصره الآخرون حوله، إذ أن هذا القانون سيصبح فيما بعد مفخرة للتونسيين ونموذجا تسير على نهجه أو تحتذي به قوانين أخرى في العالم العربي. ما يمكن قوله هنا، أن في حياة الشعوب وسيرها نحو الرقي والتطور، تكون هناك حاجة لنخب ورجال دولة، لهم من الشجاعة وسعة النظر ما يجعلهم يسيرون أحيانا ضد الثقافة والأفكار السائدة في مجتمعاتهم، حتى وإن أدى ذلك إلى فرض الإصلاحات وإحقاق التغيير من فوق بقوة القانون. وكما يقول الأثر ف”إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن”.
لعل لنا في تاريخ العالم العربي والإسلامي أمثلة عن ذلك وعن المفارقة التي تكون فيها نخب بعض الدول على مسافة من مجتمعاتها وسابقة لها في الوعي بضرورة التغيير الجذري والصادم. وهكذا، فقد رأينا كيف أن الحبيب بورقيبة كان سابقا لزمنه ومتحررا من أغلال عصره الفكرية، نظره يرنو للأمام ولا يلتفت للخلف، فصاغ مجموعة من القوانين التي كانت صادمة في وقتها، إلا أن التونسيين يجنون ثمارها الآن. ولنذكر هنا على سبيل المثال لا الحصر قانون الأحوال الشخصية وتوحيد القضاء وتحديثه وإلزامية التعليم للذكور والإناث واشتغال المرأة في الوظيفة العمومية وإلغاء أراضي الأوقاف وبناء نظام تعليمي حديث. ثم هناك نموذج أكثر جذرية وهو حكم مصطفى كمال، الذي قلب كيان تركيا وأخرجها من حالة “الرجل المريض” إلى وضع دولة عصرية.
ففي السنوات الأولى من رئاسته، قام مصطفى كمال بثورة شاملة في النظام التعليمي بإنشاء مدارس وجامعات ومعاهد كبرى جلب لها الأساتذة والمشرفين من أوروبا، فانخفض مستوى الأمية بشكل كبير. ثم أعطى حقوقا غير مسبوقة للمرأة حيت أن النساء التركيات كن أسبق في التمتع بالحق في التصويت من النساء الفرنسيات مثلا. ألغى مصطفى كمال أيضا البنيات السياسية والاجتماعية التقليدية، كالخلافة والأوقاف، التي كانت تخدم مصالح فئة ضيقة وصغيرة من الشعب وتبقي الغالبية العظمى من الأتراك في التخلف والجهل والبؤس. ليس من الصدفة إذن أن تكون تونس وتركيا حاليا نماذج متميزة داخل العالم العربي والإسلامي من حيث وضعية المرأة وترسيخ احترام حقوقها وجودة التعليم وطبيعة النخب السياسية. غير أن الوجه الأخر، المظلم والبئيس، لهذا النوع من “التسلط المستنير” هو تضخم أنا الزعيم وتحويله إلى وثن بشري محاط بالقداسة والتبجيل، فلا صوت يعلو فوق فكر الزعيم. إلا أن هذا النوع من الحكم كان ضروريا في مرحلة من حياة بعض الشعوب وتاريخها. ففي مرحلة الاستقلال وإعادة البناء للخروج من حالة الضعف والوهن كان هذا “التسلط المستنير” مخرجا لا مناص منه للقفز بالمجتمعات وحملها على التخلص من نكوصها الحضاري والتاريخي.
مأساة المغرب وتخلفه المزمن ثقافيا واجتماعيا راجعان لكونه لم يعرف بعد الاستقلال مشروعا تحديثيا آتيا من فوق، يبدل الإنسان لا البنيان والعقليات لا الشكليات، كما هو الحال في الأمثلة السابقة. فالحسن الثاني حكم البلاد بقبضة من حديد ودام في السلطة لأكثر من ثلاثة عقود، إلا أنه لم يحمل أبدا هذا المشروع التحديثي الشامل والعام. فالملك الراحل كان عصريا في لباسه وثقافته وأهوائه، وذا معرفة دقيقة بالحضارة الغربية، وخصوصا الفرنسية، بحكم تكوينه ومسار حياته، إلا أنه ظل تقليديا حينما يتعلق الأمر بنظرته للمجتمع المغربي ومحافظا في مسألة التحديث. بل على العكس من ذاك فقد استخدم الحسن الثاني البنيات التقليدية لتقوية سلطته وإضعاف معارضيه. ولعل الكثير يذكرون ما رواه الأستاذ محمد شفيق حين رفع تقريرا سنة 1968 إلى الحسن الثاني عن حالة التعليم في المغرب وأوصى بإلغاء المسايد (الكتاتيب القرآنية)لأنها لا تعلم إلا الحفظ والإذعان الأعمى لسلطة الملقن وتقتل الحس النقدي والشجاعة لدى الأطفال فأعطى الملك الراحل الأمر إلى حكومته بتعميم المسايد على سائر التراب الوطني. نتيجة كل هذا هي ما نراه حولنا من عدم رسو سفينة المغرب على بر التقدم والحداثة ورداءة نخبنا السياسية والثقافية التي هي حصاد مر لما زرع منذ عقود من جهل وتخلف.
عبد الله ترابي
رئيس التحرير