أية مكانة للدين في الدولة الحديثة؟ وأية مكانة للشريعة في منظومة القانون في العصر الحديث؟. حول هذين السؤالين، يتحاور كل من رضوان بنشقرون أستاذ الأدب الإسلامي في كلية الآداب ابن مسيك، وعضو المجلس العلمي الأعلى، وأحمد عصيد المثقف العلماني المعروف، والباحث بالمعهد الملكي للثقافة الأمازيغية.
بعدما ظلت الشريعة الإسلامية المصدر الأساسي للتشريع والمهيكل لجميع مناحي الحياة في البلدان الإسلامية، طيلة قرون طويلة، تعرفت هذه الدول على القوانين الوضعية كأحد محمولات الاستعمار أساسا. ومنذئذ، حدثت تغيرات جذرية في شكل الدولة في بعض بلاد الإسلام، فجرى تبني مفهوم «الدولة العصرية»، بما يعنيه من أنظمة حكم ومؤسسات وقيم. وواكب هذا التحول إلى الدولة الحديثة نقاش ما يزال مستمرا إلى اليوم حول العلاقة بين الشريعة والقانون الوضعي وموقع كل منهما في الدولة. ولم يسلم هذا النقاش من الانزلاق إلى محطات صراع وعنف في كثير من المرات. في هذا العدد، تستضيف «زمان» مثقفين من توجهين مختلفين وبنظرتين متباينتين لعلاقة الشريعة بالقانون، ولموقع الدين من الدولة، دون أن يقصي أحدهما موقف الآخر. ففي الوقت الذي يعتبر أحمد عصيد أن «مكان الدين في الدولة الحديثة هو المجتمع، أي اختيار الأفراد بحرياتهم الفردية»، دون إكراه، يوافقه رضوان بنشقرون الرأي بالقول إنه «ليس لأي دولة أن تلزم أحدا على أن يعتنق دينا ما»، بيد أنه يضع تدقيقا: «عندما يقول الفرد: أنا مسلم، يصبح لزاما عليه أن ينضبط لما انخرط فيه والتزم به». وفي الوقت الذي يرى عصيد أن التعاقد في الدولة الحديثة، يقوم على قاعدة المواطنة والمساواة، لا يجد بنشقرون أي عيب في أن يتم التعاقد في إطار الدين، باعتباره يتضمن الإقرار بحقوق الجميع، بمن فيهم غير المسلمين. وبينما يعتبر عصيد أن الدولة يجب أن تبنى على القوانين الوضعية على أساس أن تدبر بعض المجالات بالشرع، ينادي بنشقرون بالعكس، أي أن تكون الشريعة هي الأساس، فيما تكون القوانين الوضعية قابلة لأن تدمج فيها بشرط أن لا تتعارض مع روح الشريعة الإسلامية.
كيف يتصور كل من أحمد عصيد ورضوان بنشقرون مكانة الدين في الدولة اليوم؟
أحمد عصيد: في تصوري أن مكانة الدين في الدولة اليوم هي مكانة الدين في الدولة الحديثة. وهو النموذج الذي نشأ في المغرب منذ ما يزيد عن قرن، حيث تعرف المغاربة على مؤسسات الدولة الحديثة وبنياتها مع بداية مرحلة الحماية، ومنذ هذا التاريخ بدأ مسلسل يمكن اعتباره مسلسل «علمنة»، مثل ما حدث سنة 1913، عندما وضعت القوانين الوضعية والمحاكم الحديثة بالمغرب، كما وضع بعد ذلك تعليم نظامي عصري، وأدخلت الفتاة إلى المدرسة، ورافق ذلك تطور بنيات المجتمع وبنية الأسرة وبنية العلاقات بالتدريج، وكذا عادات الأكل والشرب واللباس. والانتقال إلى الدولة الحديثة، يفرض اعتبار سمو القانون وتساوي الجميع أمامه بغض النظر عن العقيدة أو الجنس أو اللون أو اللغة أو النسب، وهو المنطلق في تحديد مكانة الدين. بهذا الاعتبار يكون مكان الدين في الدولة الحديثة هو المجتمع، أي اختيار الأفراد بحرياتهم الفردية. بمعنى أن الدين يدخل ضمن الاختيار الحرّ للأفراد، وعلى الدولة مسؤولية حمايتهم جميعا، ولكن الدين هنا بالتعدد وليس بالمفرد، لأنه مثلما يختار مواطن الإسلام قد يختار آخر دينا مغايرا، وقد يكون هناك من يفضل البقاء خارج كل الأديان.
رضوان بنشقرون: الدين في المصطلح الشرعي هو «وضع إلهي سائق لذوي العقول إلى صلاح في العاجل وفلاح في الآجل». هذا تعريف الدين في المجمل، وبهذا المفهوم، وانطلاقا من بعض النصوص الواردة في القرآن والسنة، نجد أن في التدين مصلحة للناس. غير أن هناك مبدأ عاما هو قاعدة «لا إكراه في الدين»، فلا يجوز لأحد أن يكره أحداً على التدين ولا على اتباع دين معين، فتلك مسألة مقررة في الشرع وفي القانون الوضعي معا، غير أن هناك ضوابط تضبط حياة الإنسان حين يلتزم بشيء ما ولا بد من نوع من المتابعة لمدى تنفيذ ما التزم به.
وإذا كانت الدولة الحديثة تقوم على مبدأ التعدد، فهذا أمر له أصله في تاريخنا وليس شيئا جديدا: ففي زمن عمر بن الخطاب حين فتح لله على الإسلام مدينة القدس، أصر بعض أهلها على التمسك بديانتهم، وجاء عمر فاستلم مفاتيح المدينة وأعلن فيها حكم الإسلام، لكنه أبقى على الكنائس والمعابد التي كانت فيها، ومن شاء أن يعتنق الإسلام اعتنقه، ومن شاء بقي على دينه.
حاورهما الطيب بياض وخالد الغالي
تتمة المقال تجدونها في العدد 17 من مجلتكم «زمان»