نعم كان ما حققه الفريق الوطني لكرة القدم، في مونديال قطر، إنجازا غير مسبوق .لم يكن يخطر ببال حتى لذوي الخيال المُجنّح. وكانت أرجاء ذلك الإنجاز الرائع تتردد في المُدرجات، وخارجها، وتُحْدث أثرها القوي في ربوع المغرب، وتبلغ تموجاتُه الجالية المغربية في الخارج، بل كل شعوب العالم العربي، وإفريقيا، أو المستضعفين. كسر الفريق المغربي الاحتكار القائم في مربع النهائيات. ولكن أثر الإنجاز المغربي تجاوز ميدان الكرة، ويُذكّر بتلك المشاعر التي استأثرت بمستضعفي الأرض عقب الاستقلالات، من أجل كتلة بديلة عن صراع القوى الكبرى المتصارعة. الكرة لعبة، ولكن الرياضة والفن هما المجالان اللذان كان المستضعفون يكسرون من خلالهما احتكار الأقوياء، وهما مجالان يخفيان قضايا سياسية وتوجهات ثقافية.. ولذلك، لم يُحدث الفريق الوطني، بإنجازه الرائع، ثغرة في ميدان كرة القدم وحدها، ولكن في منظومة عالمية صيغت في غياب المعنيين بالأمر .قُطعت أوصال شعوب، وفُرضت عليهم حدود وتصورات، بنخب هي صدى للمتروبول، أو صنيعة المتروبول.
نعود مع المونديال إلى خانة البداية .إلى خانة منظومة آشرة صيغت في غياب المعنيين. لقد أحدث المونديال ثغرة، ويتوجب على أصحاب القرار، في بلادنا، والمُشرّعين، والسياسيين وأصحاب الرأي، التفكير في تثمين هذا الرصيد، على كل الصُّعُد، وليس السياحة وحدها.
يفتح الإنجاز الكروي بارقة أمل في ميدان العلاقات الدولية كذلك. وأولها، هذا الشعور بالانتماء، ومنها بداخل العالم العربي، ولسنا نعني بذلك الانتماء العرقي، إذ لا يمكن تجاهل تنوع ذلك العالم العربي إثنيا وثقافيا ولسانيا، ولكن الاشتراك في منظومة ثقافية وواقع اجتماعي بقضاياه المعقدة، وفي تماثل المصير، وهو الأمر الذي يفرض على المثقفين والمفكرين التفكير في العالم العربي، عدا الأحكام الجزافية التي تصدر من هنا وهناك، بناء على أحكام مسبقة، أو رؤى جاهزة، أو مرجعيات إيديولوجية.
ومن دون شك، أن الصراع الحضاري حقيقة، فالحرب الدائرة رحاها ما بين روسيا وأوكرانيا تُسوَّق بصفتها حربا حضارية… وإذا كانت هناك دعاوى ترفع عقيرة حوار الحضارات، أو تآلفها وتحالفها، فلا يمكن أن نغفل واقع الحال من صراع حضاري قائم، من شأنه أن يستفحل.
كل هذه التغييرات تفرض علينا، في بلدنا، تفكيرا جديدا، حول القواعد الناظمة للعلاقات الدولية، لفهمها، وضرورة الارتقاء بالعلوم الإنسانية.
وينبغي أن نقر بأن بضاعتنا في العلوم الإنسانية بضاعة مزجاة، وأن الجيد مما يُكتب، يُكتب باللغات الأجنبية ويُترجم إلى العربية، قوة وضعفا.
نتحدث كثيرا عن ضرورة إصلاح منظومة التعليم، ونحن مصيبون في ذلك، ويشير البعض إلى أن مدخلها الجامعة، وليسوا على خطأ، ولا يتفقون حول زاوية الإصلاح. ويبدو لي أن من أولى أولويات الإصلاح الارتقاء بالعلوم الإنسانية، فهي أداتنا لفهم واقعنا، ولا يمكن لاستطلاعات الرأي، كما تذهب بعضُ المؤسسات والنافذون، أن تكون بديلا للعلوم الإنسانية، أو رصد التوجهات الثقيلة لمجتمع ما.
ولكننا لا نستطيع أن نقوم بهذا العمل لوحدنا ..فنحن نحتاج كما في فريق كرة القدم إلى عناصر خارج فرقنا الوطنية، ونحتاج، كما في مدرجات المونديال، إلى كفاءات وطنية خارج الوطن، وإلى تثمين العناصر الوطنية، وشحنها بالاعتراف أو ما سماه المدرب الوطني بـ“النية“ أو فلنسمها بالإرادة والتصور، وإلى شراكات أجنبية.
ونستطيع في تضافر الجهود أن نقوم بثورة في العلوم الإنسانية، فلنا مؤهلات جمة، ولنا كفاءات خارج الوطن، ومن شأن تضافر الجهود أن تقيم مدرسة مغربية قائمة الذات، نحقق من خلالها ثورة ثقافية كما ردد البعض… وكما يقول المتنبي:
إذا غامرت في شرف مَروم // فلا تقنعْ بما دون النجومِ.
حسن أوريد
مستشار علمي بهيئة التحرير