تثير علاقة المغاربة بالماء والبحر عدة تساؤلات، فالسواحل الممتدة على واجهتين، عكست نمط عيش المغاربة منذ قرون مبكرة، وظلت مؤثرة فيهم إلى وقت متأخر .في هذا الحوار، يفصّل المؤرخ المتخصص في تاريخ البحر، حسن أميلي، في علاقة المغاربة بالبحر والأودية بما يختلجها من معتقدات وأساطير وآراء دينية، وأساطيل بحرية ومراسي.. إلى أطعمة وعادات وسلوكات ما تزال قائمة.
في المغرب القديم، هل كان للمغاربة ولسكان شمال إفريقيا معتقدات عن البحر والأودية، ربما، أثرت في درجة تعاملهم مع مياهها؟
انعكست صعوبة التضاريس الساحلية وخطورة العمل الملاحي انطلاقا منها على تصور المغاربة إلى البحر وعالمه منذ القدم، وأديتا إلى تعزيز الحواجز الطبيعية بالمزيد من العوائق النفسية، كنتاج لضمور التجربة المهنية ولضعف التراكم المعرفي والتقني في هذا المضمار؛ الأمر الذي دفعهم إلى الاستعانة بالفكر الخرافي لإدراك ماهية البحر وتعليل ظواهره استنادا إلى الموروث الثقافي الأمازيغي الأصلي أولا، ثم بالتفسيرات الدينية والفروع المؤسسة عليها ثانيا، بغية تحقيق تواصل وجداني مقبول بين الإنسان والمجال، أو على الأقل الحصول على أجوبة مقنعة عن تساؤلاته الملحة الناجمة عن تأثره الشديد بالوطأة النفسية لهذا المجال الصاخب بعظمته وشساعته، وبخطورته ومجاهله غير المدركة. من ثم، اعتبر البحر شأنا إلهيا صرفا، إذ هو خالقه وباعث مكنوناته، والمتحكم في حركاته وسكناته؛ وعلى هذا الأساس واعتبارا لما كان للماء من أسبقية في الخلق، ما كان الاعتقاد ليتزحزح عن كون البحر هو أصل الدنيا، تسبح الأرض في مياهه، ومن ثم تستحيل على الإنسان، محدود العلم والإدراك، الإحاطة علما به، ويشقّ عليه الإبحار في خضمه ولججه، وليس بمقدوره بلوغ نهاياته. وعلى هذا الأساس، كان التوجس من التفاعل مع البحر – على غرار بقية الشعوب الأخرى – قائما على الخشية والحذر، ولا يتم الإقبال على استغلاله إلا من تملك الجرأة، أو أجبرته الحاجة لاستكمال القوت المفقود على اليابسة مثال أهالي سوس والريف، وعلى سبيل المثال يتم الاستدلال بصعوبة التعامل معه من خلال القول باستحالة إقدام أشجع الرجال على رشف كأس واحدة من مياهه.
كيف ترى أن الغالبية لم تسكن بالقرب من البحر في العصر الوسيط، وتركزوا بمدن وسط المغرب وداخله، من جهة المحيط الأطلسي وحتى المتوسط؟
تأثرت عملية استيطان المغاربة في الداخل القاري بعيدا عن البحر، في السهول الغربية بعاملين اثنين: أولهما طبيعي يتعلق بقدرة اليابسة على توفير مجال إنتاجي لا بأس به مما يسمح بالمجهود الزراعي الآمن في السهول الأطلنتيكية الفسيحة، ومن ثم لم يكن المغاربة مجبرين على الارتماء في مياه محيط خطر منفلت بعواصفه وزوابعه المميتة، باستثناء مناطق الندرة الإنتاجية ساحليا ذات الطبيعة الجبلية (سوس والريف). وثانيهما بشري متصل بسياسة تعمير تلك السهول خلال العصر الموحدي بقبائل بني هلال وبني سليم العربية وذات الثقافة الصحراوية، الأمر الذي أدى إلى اقتلاع العنصر الأمازيغي الأصلي الأكثر تأهيلا إلى الاستقرار، بعناصر تعتمد على الظعن والترحال، وبالتالي انتفاء العوائد الملاحية والبحرية بتراجع الاهتمام بمراكز الاستقرار الساحلي، وضمور التعاطي مع الأسماك لفائدة التعاطي مع المواشي. وبناء على هذا المعطى، تعززت فكرة الساحل كنهاية للعالم المعروف في العصر الوسيط نظريا، بتجلياته البشرية الجديدة المتحولة بأنظارها صوب المشرق؛ أضف إلى ذلك أن فراغ السواحل، باستثناء بعض المراكز الحضرية المنتشرة هنا أو هناك، هو ما عزز هذه النظرة جراء يسر استباحتها من طرف الغزاة الإيبيريين (البرتغال ثم إسبانيا)، وتبعات ذلك بجلاء جزء كبير من سكانها صوب الداخل القاري.
حاوره غسان الكشوري
تتمة الحوار تجدونها في العدد 110 من مجلتكم «زمان»