وأنا أتصفح قبل أيام منصة اليوتوب، وقعت على فيديو قديم للرئيس التونسي السابق الحبيب بورقيبة، وعلى يمينه الرئيس الليبي المقتول معمر القذافي، كان الرئيس يلقن العقيد، الذي كان يملأ الدنيا ضجيجا بشعاراته الثورية والبهلوانية أحيانا، درسا في علم السياسة والجيوبوليتيكا، ويحاول أن يشرح له أن المشاريع الوحدوية لا تبنى بالعواطف ولا بالحماس الزائد ولا بالأحلام الطوباوية، وإنما بالأدمغة والنخب والاقتصاد والتنمية، فلا يمكن لدول ضعيفة أن يحمل بعضها بعضا، بل يكون حالها كالغريق المتمسك بمثله.
من الصدف أنني في هذا اليوم نفسه، فوجئت بتصريح لراشد الغنوشي، زعيم حركة النهضة التونسية، وواحد من أشهر منظري حركات الإسلام السياسي، وهو يتحدث لإحدى المحطات الإذاعية عن فكرة إقامة اتحاد إقليمي يضم تونس والجزائر وليبيا، في أفق إحياء فكرة المغرب العربي.
ما أثارني في هذا التصريح ليس الفكرة بحد ذاتها. من حق الغنوشي أو غيره أن يعبر عما يراه مصلحة لبلده، كما فعل المغرب يوما حين أعلن مع ليبيا واحدا من مشاريع الوحدة الفاشلة في منطقتنا الإقليمية، لكن السيء في الموضوع هو توقيت هذا التصريح وسياقه، فالغنوشي يعلم أن العلاقة بين المغرب وتونس ليست في أفضل أحوالها، أو بالأحرى ليست كما يجب أن تكون، نتذكر جميعا كيف أن الملك محمد السادس خرج يتجول بمفرده بشارع الحبيب بورقيبة سنة ،2014 بينما كانت وسائل الإعلام الدولية تتحدث عن حالة الفوضى الأمنية التي تعيشها تونس .ومع ذلك، لا تتطور هذه العلاقات ولا تتجاوز مكانها .يعلم الغنوشي جيدا أن الجار الجزائري هو من يقف عقبة نحو ذلك .لذلك، يسعى لمغازلة هذا النظام، وليقول له في ظل خلافه مع الرئيس قيس سعيد حول السياسات الخارجية، بأن موقف النهضة من الجزائر هو موقف تونسي، ينسجم مع الخوف التونسي العارم سواء لدى الحكم أو المعارضة أو الجيش أو النخبة من جنرالات الجزائر، ومن تهديدهم للتجربة الديمقراطية الهشة التي تعرفها تونس. لذلك، هو يرسل الرسائل للجنرالات بأن موقفكم من حفتر وصراعه مع الإخوان ليس له أي أثر على موقفنا منكم، وأنه في ظل توتر الأجواء بينكم وبين جيرانكم المغاربة نطمئنكم أن المغرب ليس من أولوياتنا، ولا يدخل في استراتيجياتنا القريبة والمتوسطة.
إن كان من حسنة لهذا التصريح، فهو أنه أعاد النقاش مرة أخرى حول ما سمي بـ“اتحاد المغرب العربي“، وما مدى إمكانية استفادة المغرب ودول المنطقة من هذه المبادرة، فبغض النظر عن الاسم وما يحمل من ثقافة مشرقية تحاول التحكم دوما فيما يقع في رقعتنا الإقليمية، فإن هذه الفكرة ولدت من مهدها ميتة، لأنها بنيت على مزاجية السلط الحاكمة بهذه الدول، وليس على رؤى استراتيجية، ومشاريع اقتصادية.
لا يمكن القول إن المغرب ليس بحاجة لمثل هذا التكتل، فنحن نتحدث عن ساكنة تتعدى المائة مليون نسمة، والمسافة بين الرباط وبنغازي في أقصى هذا المجال لا تتجاوز مسيرة يومين بالباخرة وأربع ساعات بالطائرة، مع اعتماد جزء كبير من هذه الساكنة على المواد الأولية التي يتفوق المغرب في إنتاجها كالفلاحة والنسيج وعدد من الصناعات الأخرى .لنتخيل حجم الفرص القائمة أمامنا لو كانت السبل مفتوحة لهذا السوق، بدل أن تستغل دول الشمال هذا التشرذم، وتفاوضنا ككتلة واحدة بمنطق المنافسة ومن يقدم الثمن الأفضل، بل وتفرض شروطها وابتزازها دون أي موقف واضح وصريح من قضايانا الوطنية، وقد جاء قرار ترامب بالاعتراف بسيادة المغرب على صحرائه ليفضح مواقفها الضعيفة وسياساتها الحربائية نحو دول الجنوب.
لكن ضياع كل هذه الفرص لا يعني تكرار خطأ الأمس، وبناء المغرب الكبير دون أي رؤية استراتيجية وأرضية اقتصادية صلبة. مغرب اليوم، بكل موضوعية، يختلف تماما عن جيرانه، نعلم جيدا أن الجمهوريات الاستبدادية لا تعطي أي أهمية لمستقبل دولها الاقتصادي بقدر ما تعمل على إطالة التحكم السياسي والأمني، على خلاف ما تمنحه الملكيات من استقرار وقوة في القرار. ولهذا، ليس من الدعاية المجانية أن نقول إن المغرب قد شق طريقه بخطوات عن باقي دول المنطقة، وأنه أصبح اليوم قوة صاعدة بغرب إفريقيا، خصوصا مع تقدم المفاوضات لمد أنبوب الغاز عبر هاته الدول نحو أوربا، وهو ما يزعج الجارة الجزائر ومن خلفها القوى الكبرى. ولذلك، سيكون من الخطأ بناء أي تكتل إقليمي مع دول فاشلة سياسيا واقتصاديا، أو ما زالت تترنح لتجد ذاتها.
فكرة “المغرب الكبير“ لا شك أنها تدغدغ أحلامنا وخيالاتنا، لكنها أبعد ما يكون عن التحول إلى حقيقة في ظل المناخ السياسي المتوتر. ولذلك، لا تجد من يروج لهذا المشروع من الطبقات الحاكمة، فقط المثقفون والاقتصاديون وخبراء السياسة من يفعل ذلك، وإن كان من أمل يوما ما في تحقق هذه الفكرة، فلن يكون إلا في ظل نخبة سياسية شابة صاعدة، على أن يكون ذلك بعد سنوات من البناء والتفكير ووضع الخطط الاستراتيجية، وليس مزاجا سياسيا لم تجن منه المنطقة سوى الخراب والفشل.
محمد عبد الوهاب رفيقي
كاتب رأي