ودعنا مطلع هذا الأسبوع الصحفي اللامع والإعلامي المتميز جمال براوي، ولا يمكنني بداية إلا أن أقدم أصالة عن نفسي ونيابة عن كل العاملين بمجلة “زمان” خالص التعازي لعائلة الفقيد، ولكل محبيه ومتابعيه وما أكثرهم. شخصيا حزنت شديدا لوفاة الرجل، وقد يكون هذا الأمر صادما للبعض وغير مفهوم، بحكم الصراع الإيديولوجي الذي كان بيني وبين الرجل في فترة سابقة، إذ ليس سرا أن أقول أني كنت وقتها أعتبر الرجل من ألد أعدائي، بحكم مقالاته التي كان يدبجها سواء على مجلة “لوجورنال” أو على صحيفة “la Gazette du Maroc” أو غيرهما من المنابر الإعلامية، والتي كانت تتضمن نقدا لاذعا للفكر المتشدد الذي كنا نعبر عنه يومها، لكنني أفهم اليوم أن الرجل كان يفعل ذلك سواء اتفقت معه أو اختلفت في مضمون ما كان يكتب وشكله انطلاقا من غيرة على وطنه، وخوف شديد على مستقبل بلده وأمنه واستقراره، لذلك سرعان ما انمحت من قلبي كل آثار للعداوة السابقة أو رغبة في الحقد أو التشفي، بل أكثر من ذلك، يمكنني القول أني تحولت إلى معجب بالرجل، ومتابع حريص لكل برامجه الإذاعية التي كان يتحفنا بها على أمواج إذاعة MFM، لما أجد فيها من صدق اللهجة وعمق التحليل وسلاسة التعبير، خاصة وأن التغيير الذي عشته في مختلف مراحل حياتي كأي إنسان طبيعي متطور لم يسلم منه جمال أيضا، حيث صار أكثر هدوءا وأشد تفهما واستيعابا لمخالفيه ومعارضيه. وكم كانت فرحتي شديدة يوم كنت بسيارتي، وقد وضعت تردد الإذاعة على برنامجه اليومي على عادتي، لأجده يتحدث عني بما أثلج صدري، بعبارات صادقة ومؤثرة، زادتني احتراما وتقديرا لجمال الإنسان قبل جمال الصحفي والمحلل السياسي، ولذلك لم أستغرب من حالة الإجماع حول الحديث عن مناقبه بعد موته، بدءا بملك البلاد في رسالة التعزية الموجهة إلى أسرته، وانتهاء بعشرات التدوينات من أصدقائه ومحبيه ومتابعيه. وبقدر ما وجدت ذلك أمرا طبيعيا بحكم وزن الرجل وقيمته وعطائه، بقدر ما آلمني أن يكتب صديق الزنزانة السابق حسن الكتاني تدوينة في حق الرجل ملؤها الحقد والبغض والشماتة في موت جمال ورحيله عن الدنيا، مع محاولة تصويره بالرجل الذي يحارب الإسلام ويهدم المساجد ويؤلب على رجال الدين وأهله، ورغم أني أتحاشى الدخول في أي ردود كلامية مع الكتاني مراعاة لعشرة سابقة و لحرمة “شركة الطعام” بلغة المغاربة، إلا أن ما كتبه كان مستفزا لي بل صادما، إذ كيف يسمح لنفسه من يقدم نفسه حاميا للدين ومدافعا عنه أن يشمت في موت رجل يوما بعد وفاته، مع ما نعرفه في الإسلام من حرص على حرمة الميت وعلى احترام لحظة الموت، ومع ما تفرضه أخلاق المسلمين من ذكر موتاهم بخير، ومن إشاعة مناقبهم وستر عيوبهم، وفي أسوء الأحوال الصمت وعدم التعليق بدل الشماتة والتشفي. ألم يقرأ صديقنا القديم يوما في أي كتاب من كتب التراث التي اطلع عنها شيئا عن الاقتصار على ذكر محاسن الميت منا، وعدم التطرق لكل ما يسيء له أو يؤذي أهله وأقاربه من كلام جارح يزيدهم حزنا على حزن وألما على ألم؟، ألم يقف يوما فيما تلقاه من فقه الشريعة وعلومها إن كان له نصيب من ذلك قل أو كثر، على ما ذكره الفقهاء والمربون والصلحاء من أن الميت حقه الرحمة والاستغفار، فإنه قد أفضى إلى ما قدم، مهما اعتقدنا أنه قد أساء إلينا يوما أو ظننا أنه قد تعرض لنا بالأذى. لا الإسلام الذي نعرفه، ولا الأخلاق الفاضلة التي نسمو إليها جميعا، يسمحان بالتشفي في موت أي إنسان ورحيله، بله أن يكون قامة إعلامية وإنسانية في حجم جمال، رحم الله براوي وغفر له، ولا عزاء للشامتين والحاقدين.
محمد عبد الوهاب رفيقي