تقلّب الكاتب والمفكر عبد القادر الشاوي بين تجارب عديدة، في الصحافة والسياسة والرواية والأدب والدبلوماسية. وطبع مساره الطويل أهم، بل أقسى، تجربة قد يعيشها الجنس البشري، وهي تجربة السجن والتعذيب؛ إذ قضى 16 عاما في زنازين الفترة الحالكة من تاريخ المغرب، والتي عبّر عنها و”فضحها” في رواياته وكتبه. لكن في هذا الحوار، نغوص مع الشاوي في قضايا سياسية وفكرية وإنسانية عايشها وكتب عنها، كالانتماء للحركة الماركسية وانقسامات اليسار المغربي، ومتابعة منتخب 86 من داخل السجن، والمكتسبات والمصالحة مع الماضي ..فضلا عن تحليله ”التاريخي” لنشأة ”السلفية الوطنية “وأدوار علال الفاسي في ما سمي بالبورجوازية الوطنية. كما يحدثنا ضيف العدد عن تجربته الدبلوماسية في إسبانيا والشيلي، لا سيما في ما يتعلق بقضية الصحراء المغربية.
في البداية، لنستغل الحدث الذي عاشه المغاربة جميعا، وهو ما حققه المنتخب المغربي في كأس العالم بقطر. واسمح لنا أن نعود بك لما حققه أيضا المنتخب المغربي في سنة ،1986 أي في الفترة التي كنت ما تزال معتقلا. حدثنا كيف تابعتم هذا الحدث أنتم المعتقلين السياسيين من داخل السجن؟
أتذكر الحدث على نحو غامض نسبيا على المستوى الشخصي، رغم أن الإقبال على مشاهدة بعض المباريات كان حماسيا، خصوصا وأن الإدارة السجنية بعد إضرابات ومطالبات كانت قد رخصت بإدخال التلفزة، بحيث وُضِعت في قاعة كبيرة جيء بكراسيها من كنيسة في مدينة الرباط هدية من جمعية مسيحية. ولعلي أذكر على وجه التحديد المقابلة التي انتصر فيها المنتخب المغربي (كان أغلب لاعبيه من المحليين باستثناء بودربالة وكريمو ولا أذكر غيرهما) على المنتخب البرتغالي، أي ذلك الانتصار الذي فجر شعورا خاصا، غالبا ما كنا نداريه بسبب موقفنا المعارض للنظام، بنوع من الوطنية المكتومة التي عَنَتْ للبعض بأن بلدا متخلفا وغير ديموقراطي، انتصر انتصارا باهرا تقنيا وبدنيا على بلد كانت الديموقراطية قد قامت فيه منذ بداية السبعينات، ومستواه الكروي مهم للغاية. لا أذكر أننا خصصنا نقاشا عموميا لذلك، ولكن شعور بعض الرفاق، رغم أن المنتخب الوطني لم يتجاوز طور الثمن، ظهر عليه ما يمكن تسميته باستفاقة البعد الوطني في شخصية المعتقل السياسي المعارض (معارضة جذرية وغير جذرية)، لطبيعة السلطة في البلاد .ومعلوم أن السياسة توجد في قلب اللعبة نفسها، لطبيعتها الشعبية ولأهميتها في التجنيد وطريقتها في استظهار أنواع منوعة من الأحاسيس والمواقف، ولا أتذكر من صاغ تعبير: الهزيمة المشرفة لتعزية الشعور الوطني بالتفوق!
رجوعا إلى طفولتك، ماذا تتذكر عن اللحظات الأولى من استقلال المغرب، بالرغم من أنك كنت ما تزال طفلا يافعا؟
ذكرياتي عن المرحلة الموالية لما بعد الاستقلال قليلة وجافة ولا تشجعني على البوح، وما ذلك إلا لأنني ازددت وعشت طفولتي الأولى في قرية، ولو أنها كانت حاضرة المناطق المجاورة لوجود السوق والمستشفى والمواصلات والتجارة وسوى ذلك، كانت معزولة نسبيا .وربما كان للوجود العسكري الإسباني في تلك القرية (باب تازة) قبل الاستقلال، وبعده بقليل ما يفسر تلك العزلة. وقد رسخت في ذكرياتي من تلك المرحلة ثلاث لوحات (وقائع): الأولى تلك الدبابات المصفحة التي لا أذكر عددها وهي في طريقها إلى المنطقة الريفية .إذ كان عليها أن تصل إلى هناك للقضاء على الانتفاضة بالريف
(1958-1957) .
والثانية أنني أصبت بدهشة مع ثلة من الأطفال (أذكر منهم حدوش)، كنا نلعب أمام الكنيسة الواقعة في أعالي باب تازة، فإذا بخبر وفاة الملك يُغَير مجرى اللعب إلى استغراب. عرفنا أن الملك اسمه محمد الخامس، الذي كان قد ظهر في القمر، قد غادرنا، فوجب علينا بأمر من الكبار أن نتوقف عن اللعب وأن نحزن للمصاب. وأخيرا لا يمكنني أن أنسى ذلك العدد الهائل من الجنود الإسبان الذين كانوا في الربيع والصيف، ينزلون متصاخبين إلى وادي معكاشة في انطلاق وفوضى، وهم يرددون أناشيدهم وأغانيهم في انطلاق غريب، يترجم شعورهم بالراحة الأسبوعية في تلك المنطقة النائية عن أوطانهم.
حاوره غسان الكشوري
تتمة الحوار تجدونها في العدد 111 من مجلتكم «زمان»