يقول الخبراء إن الحرب العالمية الثانية انتهت، أما الأولى فلم تنته بعد. ليس في ذلك حذلقة لفظية، بل هو يبين عن حقيقة موضوعية. البنية، التي استوت غداة الحرب العالمية الأولى جراء تقطيع سايكس بيكو، تترنح. تقول الوصفة إن القابلتين سايكس وبيكو، كانت تتوزعان تركة الامبراطورية العثمانية قبل أن تلفظ الأنفاس. حملت القابلة سايكس الناطقة باسم الامبراطورية البريطانية وصفة برغماتية بأن تقول لكل طرف ما يريد أن يسمعه، للعرب المنضوين تحت شريف مكة ما يريد أن يسمعه الشريف أو يفهمه من خلال مراسلاته مع المندوب السامي البريطاني ماكماهون، ولابنه فيصل ما يطمح له، مما يُسرّ به لورنس “العربي“، ولسعود المنفي بالكويت ما يتوق له، وللأرمن ما يودون أن يسمعوه، وللأكراد ما شاؤوا من الأوهام، وللحركة الصهيونية ما تخطه يمينها من رغبة في وطن، وحتى للفرنسيين ما يحبون، إلى أن تضع الحرب أوزارها …أما فرنسا فكانت لغتها بسيطة لا تكاد تخفي رغباتها المكبوتة. تزعم حماية الأقليات المسيحية، وتريد موطئ قدم في الشرق الأوسط منذ أن أزيحت منه في معركة أبي قير حينما أدال البريطانيون من الضابط الفتى نابوليون.
بعد الحرب تغير خطاب بريطانيا. تفعل ما تشاء وتترك الأطراف كلَّها تتناحر، حتى إذا تعبوا ترضّت الغاضب بقول جميل، وهدية مسمومة ..يهمها أمران اثنان: طريق الهند، (وقناة السويس وقيام وطن يهودي، تابعان لهذا المقتضى) ثم البترول، ولذلك مزقت أوصال صنجق حلب واقتطعت منه الموصل، وما عدا هذين الأمرين فأضغاث أحلام… تترضى الأمير الموتور فيصل الذي ضاعت منه دمشق والمملكة العربية المأمولة بعد أن تركته فريسةً لغريمتها فرنسا وقائدها الجنرال گورو الذي تمرس بالأطلس في غابات الأرز وبُترت ذراعه في حربه مع البرابرة، أو الأمازيغ (أي الأحرار بلغة الأمازيغ)، يُمرّغ سليل قريش الرغامَ ويئد الحلم العربي في مايسلون بأرباض دمشق في يونيه .1920 كانت تلك الطعنة النجلاء التي تلقها القوميون العرب الأوائل من بلاد حقوق الإنسان والمواطن، ولم يكن ليؤذي بريطانيا أو الغادرة ألبيون La perfide Albion كما كان يسميها الفرنسيون، أن يحقد العرب على فرنسا، وهي التي هيأت المسرحية، وأحسنت إخراجها، مثلما هيأت مسرحية غضب الحركة الصهيونية من أن تؤول متصرفية فلسطين لفرنسا بحجة وجود أقليات مسيحية .ثم تتحول بريطانيا إلى الأمير فيصل، فتترضاه في اجتماع على سفح هرم خوفو في فندق ميناهوس، حيث ينشيء عرابو المنظومة الاستعمارية البريطانية مملكة العراق ويعينون عليها الملك الضليل فيصل، أو بوليفار العرب كما يحلو للبعض أن يسميه، ثم أخاه عبدا لله الأول على شرق الأردن بعد أن أزاحوه عن العراق، ومنّوه بدمشق ..الملك الضليل الذي سوف يموت من أسى، رغم عمق فكره وثاقب بصره. وقلما أنجبت بلاد العُرْب شخصية فذة مثل شخصية الملك فيصل بن الحسين .قابلة الشرق الأوسط الأولى، سواء اتسمت بسايكس أو بيكو، أو بعدها العم سام، هي الكلبية الغربية. أما القابلة الثانية، فلربما كانت أسوأ من الأولى، وإن كانت رد فعل لها، وهي بزوغ طبقة سياسية من العالم العربي غاضبة وناقمة… وجاهلة، وإن هي حملت شعارات مجلجلة… قرأت حركة كاريبالدي الإيطالية قراءة مبتسرة، وترجمت دعوته Risorgemento (الإحياء) إلى البعث، مثلما سبق أن قرأ المرحوم ساطع الحصري فيختة الألماني على عجل .لا أحد من هؤلاء كان من عمق دهاقنة الحركة الصهيونية أمثال ماكس نوضو Max Nordau أو حايم وزيمان ،Haim Weizmann أو بر بروخوفBer Borokhov ولا أحد منهم كان في رقة فيصل بن الحسين، أو ثقافة سعد زغلول أو عمق لطفي السيد …واستهوت هذه التوليفة العجلى بعض الشباب الغاضب، واتخذها بعض الضباط ذريعة للسلطة، وساسوا بها، و حكموا بها، و عذبوا بها.. وفشلوا كلهم، حتى “الجَدَع“ عبد الناصر. النتيجة كانت أن البعث أضحى عبَثا، والرسالة الخالدة فاسدة.. وهل يمكن لأي أن يزعم عكس ذلك؟
القابلة الثانية هي الجهل أو الجهالة، أو كلاهما، وصرخة عمرو بن كلثوم
ألا لا يجهلن أحد علينا // فنجهل فوق جهل الجاهلين
أو نكيره، مما يتردد، إلى الآن، بلغة رديئة ذات لحن (أي الخطأ النحوي) وبلا رونق، وبلا طلاوة.. على كل المستويات. ما العمل؟ الغرب لم يتغير: كلبي، يدافع عن مصالحه، يوظف تناقضات خصومه، يتذرع بالمبادئ، ويجهز عليها حينما لا يرضيه ذلك، لكن هل الجهالة هي الرد؟ هل الجهل هو الحل؟
لإبطال مفعول القابلة التي قد تغير وزرتها مع انتهاء فترة الدوام، (ذلك أن العم سام، لم يزد سوى أن وظف وصفة السبع البريطاني منذ أن دخل زفة الشرق الأوسط في أعقاب يالطا)، لا بد من ثلاثة أشياء في تصوري البسيط، أولا، الذكاء، وهو للتذكير، القدرة على الالتئام، كما يعرفه المربون، أو هو مطابقة الكلام لمقتضى الحال كما يعرف العرب البلاغة، وثانيا العلم… نعم، المعرفة الدقيقة والعميقة لتفكيك واقع و لبناء تصورات ومشروع مجتمعي، والثالث، الجدية. وما قام عليه العالم العربي منذ “يقظته“ مناقض تماما لهذه الوصفة: الاندفاع والحماس عوض الذكاء، والسطحية بدل العمق والمعرفة العلمية، والشطارة والتنوعير مثلما يقول المغاربة، أي الدوران كما تدور الناعورة، عوض الجدية.
غداة حرب 67 كان الراديو الإسرائيلي يبدأ بثه في برنامج موجه للعالم العربي، مناهض لـ“صوت العرب“ ببيت جرير الشهير:
فغُض الطّرف إنك من نُمير //فلا كعبا بلغت ولا كلابا
مُحورا إياه:
فغض الطرف إنك من عُريب // فلا نصرا بلغت ولا يهوذا
وكان ذلك يؤلمني، آنذاك .ولم يعد يؤلمني، لأني اكتشفت أني لست لا من بني كلاب (عرب الثكنات)، ولا بني ضبة (عرب السلالات)، ولا أنتمي لشجرة أنساب ولا أريد، إلا لأرض الأحرار ..وأملي أن يكون الأحرار في مستوى اللحظة .أن يبنوا حيث بدأ هذا الشخص الذي كان أكثر عمقا من لورنس العربي، وأحسن نصيحة منه، ألا و هو لويس ماسينون، الذي كان مستشارا لكليمونسو لقضايا الشرق من أجل ولادة قيصرية وليس مسخا، وغادر ماسينون الشرق الأوسط حين غادر كليمونسو الشأن العام، فارتحل إلى بلاد المغرب، في دير تومليلين، كي ينادي بالمعرفة، ويدعو لحوار الحضارات، في حدائق معلقة، كما يقول الأديب المغربي الألمعي عبد الحميد جماهري، فعرف له رجالات مغاربة أفذاذ صنيعه أمثال محمد الخامس ومحمد بلعربي العلوي والمهدي بن بركة.. فهل نُنزل تلك الحدائق المعلقة على الأرض عوض البكاء على أطلال سايكس بيكو، في أرض الأحرار من أجل الأحرار؟.
حسن أوريد
مستشار علمي بهيئة التحرير