أصدر محمد بنسعيد آيت إيدر، مؤخرا، مذكرات يستعرض فيها تاريخه النضالي والسياسي. “زمان” اختارت مقتطفات عن مسارات مثلت مراحل مفصلية في حياة الرجل.. (الجزء 2).
الاختلاف مع بن بركة
كانت رؤية المهدي شاملة. إذ كان يضع نصب عينه الجزائر في أي تغيير محتمل، لذلك لم يقطع كلية مع هواري بومدين… في لقائي ببن بركة بجنيف، أفصحت له عن موقفي من الانقلاب. إذ رأيت فيه ضربة قاسية لحركة التحرير الوطني بالمنطقة، واستفسرته عن السر في بعثه لبومدين ببرقية تعبر عن علاقات التعاون المشترك.
كان واضحا بما يكفي كعادته. فالانقلاب يدخل في سياق دولي يروم تصفية حركات التحرير الوطني بالعالم. لذلك ليس من الحكمة إعطاؤهم الفرصة للانفراد بالجزائر وجعلها هي الأخرى تابعة للإمبريالية.
لقد كان نظام أحمد بن بلة عقبة أمام النظام المغربي على اعتبار أن هذا الأخير كان مجرد تابع للامبريالية… والحال أن هذا الانقلاب سيغطي تماما على أحداث مارس1965 الدموية ويخفف عن نظام الحسن الثاني ما كان يشعر به من حرج دولي…
الاتحاد المغربي للشغل وتصفية بن بركة
عدا القولة الشهيرة التي أطلقها عبد الرحيم بوعبيد بيننا وبين الحسن الثاني جثة بن بركة ، فإنه لم تسجل أي ردود فعل قوية توازي حجم المصاب. كل ما كان هو مجرد تصريحات ضعيفة من هنا ومن هناك. أما الباقي فعبارة عن صمت مريب خصوصا من الاتحاد المغربي للشغل الذي لم يحرك ساكنا، ولا قام برد فعل، لا في تصفية بن بركة، ولا عقب أحداث مارس 1965الدموية، ولا حين تعرض الحزب للقمع من طرف النظام…
إلى الجزائر مرة أخرى
… كانت توجد أيضا حركة من الاتحاديين تنشط مع حكومة بنبلة في مشروع مشترك للنضال جنبا لجنب في مواجهة الامبريالية وأعوانها في بلدان العالم الثالث، وتساهم من جانب آخر في حل مشاكل اللاجئين، وفي مقدمتها مشكل معسكر لوطا لتدريب حوالي 200 من المتطوعين… وجدت هذا المعسكر قائما، ولكن لا أدري كيف أنشئ ومن بادر إليه…
ولم أجد بدّا، رفقة مولاي عبد السلام الجبلي، من تفكيكه… لقد كان صورة للفوضى في التعاطي مع قضايا كبيرة ومصيرية… حشد من المغاربة الذين يمارسون التجارة وبعض الأعمال الصغرى بوهران، ومن آخرين استقدموا من تيندوف. وجميعهم لا وعي سياسي لهم وليست لهم دراية بأبجديات الصراع القائم بين حركة التحرير الوطني وبين الإقطاع والاستبداد والتبعية…
بومدين يدعم مجموعة شيخ العرب ضدنا
وزير الدفاع الجزائري هواري بومدين كان يستعين بشراق حمدون، مناضل سياسي سابق في حزب الإصلاح الوطني، للقيام بمهام خاصة موضوعها حركتنا السياسية والتنظيمية في المنفى. ولم تكن الغاية من وراء ذلك لتنحصر فقط في مستوى زيادة تعقيد أوضاعنا ومحاولة إعاقة العمل الذي بدأناه لحل المشاكل التي خلفها معسكر لوطا،بل تعدته حين وصل الأمر مستوى تشجيع جماعات أخرى تتحرك خارج برنامج الاتحاد الوطني، وذلك مباشرة بعد نجاحنا في تجميد المعسكر المذكور. بل ما لبثنا أن تفاجأنا بتفريخ تنظيمات أخرى تحت مسؤولية مسؤولية القائد الأعلى محمد بنحمو وسعيد بونعيلات وأحمد فوزي (شيخ العرب) وعمر الفرشي. كنت ألمس شدة الحرج عند الرئيس بنبلة وأنا أناقش معه موضوع السماح لجماعة من اللاجئين المغاربة المسلحين بدخول المغرب انطلاقا من التراب الجزائري، خارج أي إطار محدد ومسؤول. وربما زاد من حرج الرئيس عدم علمه هو نفسه بكل عناصر وتفاصيل هذا الموضوع كنت أبديت للرئيس أحمد بنبلة امتعاضي من مثل هذه الأعمال.
الخلاف مع الفقيه البصري
بلغ الخلاف ذروته مع الفقيه البصري… كان لابد من الحسم مع الحزب فيما يخص مستقبله السياسي، لذلك سيجمعنا أنا وعبد السلام الجبلي لقاء عاصف في أواخر الستينات مع القيادة الاتحادية بفرنسا. كان المراد من اللقاء المصالحة بيني وبين البصري. حضره كل من بوعبيد واليوسفي وحسن لعرج، وانصب النقاش فيه على ضرورة صياغة خط سير جديد للاتحاد، إذ ليس من المعقول أن يستمر في تبني سياسة غامضة مزدوجة، عندما يمارس في الظاهر العمل السياسي ويدعم في الباطن مغامرات العنف التي يتولاها الفقيه البصري.
لقد طرحنا مرة أخرى اختيار حزب ثوري تقدمي له التصاق بالجماهير الشعبية، وحتى إذا ما كان ثمة تبني لاختيار العنف، فيجب ألا ينحصر في فئة قليلة من احتياطي المقاومين السابقين، بل يكون قائما على المشاركة الشعبية لقواعد الحزب. غير أن هذا الطرح لم يرق لقيادة الاتحاد وقتذاك، التي مالت إلى طرح الفقيه البصري، وهو الأمر الذي جعلنا ننسحب من اللقاء، ونفكر في إيجاد إطار سياسي جديد ننتظم داخله.
سنتان في مصحة نفسية
في أكتوبر 1967، أخذني اليوسفي إلى مصحة للأمراض النفسية بجنيف. كنت أعاني من نسيان ما يقع لي في الحاضر، كأن ذاكرتي وحافظتي صارتا ترفضان أي مزيد…كان علي أن أخضع لراحة تامة، وأبتعد عن أي نشاط سياسي. وقد ساعدني على ذلك دروس اللغة الفرنسية التي كنت أتلقاها. وقد استمر علاجي النفسي مدة سنتين كاملتين.في تلك الفترة، في فرنسا، سجلت نفسي في جامعة “فانسين”، حيث درست مادة التاريخ والجغرافيا… وحصلت على الإجازة. لم أكن حاصلا على باكالوريا شعبة دراسية من الشعب العصرية، لذلك دخلت مدرسة خاصة بتوجيه من التهامي الأزموري، المناضل الاتحادي الذي انتهى به المآل إلى انتحار مأساوي. انكب اهتمامي الجامعي على موضوع المقاومة المغربية، وتلقيت وثائق هامة من المغرب سأعتمد عليها فيما بعد في كتابة «صفحات من ملحمة جيش التحرير بالجنوب المغربي»، كما استفدت من وثائق المقاومة المغربية التي تغطي سنوات الخمسينات، وقد كانت موجودة ومتاحة للباحث بالمكتبة الوطنية بفرنسا.
اسم مستعار
حزت على الإجازة باسم خالد عبد الله. لم يكن اسما حركيا كما هو الحال في عالم السياسة، بل كان عبارة عن هوية شخص جزائري مزداد بتلمسان. لم أكن لاجئا مغربيا بحسب هذه الهوية الجديدة وإنما مهاجرا جزائريا. أوراق الإقامة، الوثائق التي أدليت بها لدى دخولي إلى مصحة الأمراض النفسية بجنيف. وحتى أحصل على إقامة لمدة عشر سنوات، نصحني أحد العارفين بالحصول على عقد عمل من السفارة العراقية، وهو ما تم فعلا، لكنني حين تقدمت إلى السلطات الفرنسية جاءني الرد بالسلب. كانوا يعرفونني، وقالوا لحميد برادة: “قل لبنسعيد آيت إيدر إننا نعرفه وسنمنحه الإقامة بشكل سنوي”. وكتبوا اسم “خالد عبد لله بنسعيد آيت إيدر”.
كانت السلطات الفرنسية تراقبني من بعيد دون أن تشعرني بذلك. وحتى عندما كان الحسن الثاني يزور فرنسا، فإن هذه السلطات كانت تعتمد نقل المعارضين المغاربة، بمن فيهم حميد برادة، إلى أماكن بعيدة عن تواجده، ويتركونني أنا وعبد السلام الجبلي في حالنا. أما هوية خالد عبد الله فقد خلعتها بمجرد دخولي المغرب عام 1980.
الحياة النيابية السياسية
(بعد العودة من فرنسا).. كثيرون “غسلوا أيديهم” على الحياة النيابية ووصلوا إلى قناعة بأن لا جدوى للعمل البرلماني ولا أمل يرجى من ورائه في إحداث التغيير المأمول. عشت 23 سنة من الحياة البرلمانية. ترشحت فيها ونجحت أربع مرات عن نفس المنطقة. ومن خلال هذه التجربة اكتشفت أن الممارسة البرلمانية لم تتطور إلى ما هو أفضل بل حصل فيها تراجع كبير منذ أن انتقلت المعارضة التقدمية إلى الحكم. وربما كانت أزهى مرحلة هي تلك التي ترأس فيها أحمد عصمان البرلمان. فقد تميزت هذه المرحلة بوجود معارضة حقيقية ومؤثرة. غير أن التحاقها بالسلطة إثر مرحلة ما سمي “التناوب التوافقي” ترك فراغا كبيرا على مستوى موقع المعارضة لم تستطع أحزاب اليمين أن تملأه. وظهرت في سياق هذا التدهور ظواهر سلبية شوهت صورة البرلمان وجعلت الشعب المغربي يكون عنه صورة بالغة السلبية ويتخذ منه موقفا لم يتغير إلى الآن.
واكتملت صورة الانهيار بشاعة وسوريالية عندما لجأت أحزاب الإدارة، التي صنعها المخزن لتمييع الحياة السياسية، إلى تأدية دور المعارضة، بدون رؤية ولا قناعة، بل بمنطق الإملاءات و”التيليكوماند”.
عندما تخوفت الأحزاب من “تازمامارت”
منذ عودتي إلى المغرب في 8 مارس، أصبحت قضية الاعتقال السياسي إحدى أهم القضايا التي كانت تشغلني. كما كنت قد جمعت عددا من المعطيات عن عدد من المعتقلات السرية الرهيبة الموجودة في أماكن متباعدة من بينها درب مولاي الشريف ودار المقري وقلعة مكونة. كانت رموز من قادة جيش التحرير قد حشروا لمدة أربع عشرة سنة، في شروط بالغة القسوة والوحشية. ومن أجل هؤلاء القادة، اغتنمت فرصة الاتصال بمستشار الملك الحسن الثاني إدريس السلاوي، وتقدمت له برسالة شفوية إلى الملك الحسن أؤكد له بأن تصرفات عمالة العيون والإدارة مع هؤلاء الأبطال في ذاك المعتقل السري… طرحت الموضوع على زملائي في البرلمان من الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية وحزب الاستقلال وحزب التقدم والاشتراكية… غير أن الزملاء، رغم تقديرهم المبدئي بدون شك لأهمية الموضوع، لم يتحمسوا ولم يبدوا كبير استعداد للذهاب أبعد، أي إلى حد طرح سؤال في هذا الموضوع داخل قبة البرلمان… في 15 شتنبر1991، سيتم إغلاقه.
معارضة الملك
كان الحسن الثاني قد استقبلنا كقيادة للكتلة، فبادرته بإثارة ملف الاعتقال السياسي. وفي معرض جوابه، ربط الإفراج عن المعتقلين السياسيين بموضوع الصحراء المغربية، وقال لي إن من له موقف ايجابي من قضية الوحدة الترابية، مثلأنيس بلافريج وأصدقائه، أطلقنا سراحهم، أما السرفاتي فالإفراج عنه معلق على تغيير موقفه من الصحراء. هممت بالتعقيب، غير أن بوعبيد سبقني، وعلق على الموضوع بنعته للسرفاتي بـ”التعصب”.
قبل الجلسة الاستثنائية للبرلمان، بعث لي الحسن الثاني بإدريس البصري ليبلغني رسالة واحدة: لا تطرح موضوع المعتقلين السياسيين بالبرلمان! تساءلت عن السبب، فكان رده أن الملك يريد ذلك. هنا وجدت نفسي أقول للبصري، ما دمتم تعلنون أنكم ديمقراطيون، فمن حقي أن أثير الموضوع في إطار احترام الرأي الآخر المخالف… (بالبرلمان) أخذت الكلمة، فطالبت بضرورة تصفية ملف المعتقلين السياسيين.. تدخل أحمد العلوي، فطلبت منه ألا يقاطعني «وإلا سأقول كلاما لن يعجبك». وكنت سأواجه العلوي بالبرقية التي بعث بها إلى بن عرفة حين نصبه الفرنسيون مكان محمد الخامس.
رفض تقبيل يد الملك
عندما دخلت إلى المغرب في بداية الثمانينات… وبمناسبة سفرنا إلى أديس أبابا للمشاركة في مؤتمر منظمة الوحدة الإفريقية، كان اللقاء بالإقامة الملكية بفاس لتوديع الوفد المغربي. جاء دوري فاكتفيت فقط بوضع يدي على كتفه… لكن ما إن هممت بالانصراف حتى استوقفني وسألني بنبرة ذات مغزى: «شكون أنت؟» فكان أن أجبت بنفس النبرة: «بنسعيد»… وانصرفت.
عند عودتنا من أديس أبابا، فكرت وقلت مع نفسي، الأفضل أن أتحاشى التسليم على الملك، غير أن إدريس البصري بعث ليبلغني بضرورة تقبيل يد الملك… أعدت تماما ما قمت به في السابق، وضعت يدي على كتف الحسن الثاني وهممت بالانصراف، إلا أنه استوقفني ودنا مني وهو يقول: “راه المخزن عندو تقاليد خصك تحترمها”! لم أجبه وذهبت لحال سبيلي. كانت المسألة بالنسبة لي مسألة كرامة أولا وأخيرا. «أنا ماشي شايط باش نبوس ليدين»، ولا أملك سوى كرامتي.ولأن حضوري كان ضروريا في بعض المناسبات، كنت أقوم بانحناءة خفيفة على مسافة من الملك، الذي لم يكن لينظر جهتي.
(اليوم) كنت أتمنى أن لا يقبل الملك، وهو ملك عصري وشاب، مثل هذا الأمر، فتقبيل اليد من أمارات الخنوع، ويرتبط بامتهان كرامة الإنسان، لا يتعلق الأمر بتقليد اختاره الناس، ولا بطقس ارتضاه الشعب طواعية. أما وهو أمر مفروض،فالكل يقبل اليد إما خوفا أو طلبا لمصلحة أو تزلفا.
اقرأ أيضا: مذكرات بنسعيد آيت إيدر.. (الجزء 1)