الفيديو الذي نقل جُؤار جمهور فريق الرجاء البيضاوي في مُدرّجات الملعب وانتشر كما النور في الظلام، لتشخيصه الدقيق لوضعية الشباب الذي حُرم من الأساسيات مما يحفظ الكرامة ويمنع من الزيغ ويصوغ الأمل، كان أبلغ رسالة سياسية لم يصدح بها نوابنا الموقرون، ولم ينطق بها وزراؤنا المفوهون، ولم يبلورها مثقفونا المبرّزون… كانت ضمير شعب… مثلما كان الغضب العارم في الضفة الأخرى، ذلك الذي قام به أصحاب السترات الصُّفْر صدى لنفوق نموذج وأزمة قيم. غضب عارم، هنا وهناك، ناجم عن نفوق مرجعيات فكرية، وأزمة توجهات سياسية، وتعثر مقاربات تقنية.
لِنصارحْ أنفسنا. فلا خطابَ الحركة السياسة قادر أن يعبئ المواطنين لأكثر من جيل لا يعرف الفترة الاستعمارية إلا سماعا، ولا الحركة الإسلامية حافظت على وهجها بالنظر إلى فشلها في امتحان الانتقال الديمقراطي، وعجزها في الأداء الاجتماعي ، بل وفي سقوط بعضا من دهاقنتها إلى إغراء الجسد، مما كانت تنتصب رادعة له ومعزّرة، ولا المقاربات التقنية نجحت في تحقيق التنمية رغم بريق خطابها. فالتعليم يراوح مكانه، وما زلنا نزيد تشخيصا على تشخيص، ومرجعيات على مرجعيات، دون أن نتقدم أصبعا. والمبادرة الوطنية للتنمية البشرية لم تفلح في القضاء على الفقر، ولا ساهمت في توزيع عادل للثروات ولا في خلق الأنشطة المدرة للدخل… والذين قدّموا الحلول السحرية لم يجرؤوا أن يقدموا لنا الحصيلة. وحدها شخصيات معدودة، لا تقع في دائرة المساءلة، ولا تسطع عليهم الأضواء، تعرف كيف تجر النار إلى قرصها، تراكم الثروات، من خلال أوضاع ريعية، وتتفضل ببعض الفتات في بعض العمليات الإحسانية، وتُنعم على بعض الصحف ببعض أفضال الإشهار حسب درجات الانصياع لملكوت الرأسمال والتسبيح بحمدها… تلبس لكل حالة لبوسها. لكل فترة، وكل عهد، وكل توجه، وكل رجل قوي. يعطون «للقايد تريسو، ويحافظون على اللاس»، كما في لعبة “التوتي“. وكلها يبقى على خاطرو. سوى المصلحة العامة. وطبعا، لا يمكن أن نَفصل بين هذا الوضع الذي يزداد فيه أصحاب الغنى غنى، وأصحاب الفقر فقرا، كما يعرف أي طالب للاقتصادي السياسي، أو من اطلع على حِكم أبي ذر الغفاري.. فما من فقر مدقع إلا نتاج غنى فاحش. يمكن أن نعبر عنه بلغة أخلاقية، ويمكن أن نحيل على الأدبيات العلمية التي محّصت هذا الاختلال البنيوي بين وسائل الإنتاج وعلاقات الإنتاج.
قبل سنة بالضبط، تم إعفاء مسؤولين كبار في بلاغ يؤاخذهم على تقصير في الاضطلاع بمهاهم. ومن الوارد جدا لأي شخص في معمعان المسؤولية أن يرتكب أخطاء في التقدير أثناء الإنجاز. وإذا كان يسوغ أن نؤاخذ من تعطل في الإنجاز أو أخطأ في التقدير، فكيف لا نحاسب من أجرى خيارات تبين عدم جدواها؟ لا من قبيل الثأر، أو تصفية حسابات، ولكن من قبيل الارعواء، أي استخلاص العبرة.
لا نود لليأس أن يرين على النفوس، ولا نريد أن نجعل من الشعبوية ترياقا لأوضاع معقدة… نعم هناك أشياء تتجاوزنا، لأزمة عالمية لا تقل أثرا عن أزمة العالم لسنة 1929، وكان من نتائجها، اقتصاديا، فلسفة الخطة الجديدة في عرين الرأسمالية تلك التي انتهجها فرانكلين روزفلت، وكان من مضاعفات الأزمة، سياسيا، شيوع الخطابات الفاشية. ونحن بين هذين الخيارين، إما خطة جديدة New Deal نصوغها، وإما نترك الحبل على الغارب، لنقع فيما لا تُحمد عقباه.
نحتاج إلى جرعة أمل، والأمل يبدأ بأن نعلن أنفسنا، كما يقول ألبير كامو، مسؤولين جميعَنا. نحن مسؤولون عن الوضعية الحالية، بنسب متفاوتة، ومسؤولون كي نخرج من النفق. والأمل يتحقق كذلك، من خلال نخب مسؤولة وواعية… ولها حس بيداغوجي. فحينما يستبد الشك بالنفوس، تستحب الشعوب أن تستمع لمن يغرس فيها الأمل، ويبث فيها الطمأنينة كي يشحذ طاقتها. لا تفيد تقنيات الروموت كونترول في حالات الغبش، طبعا. والجزع عند المصيبة مصيبة أخرى، كما كان يردد رجل دولة، في زمن ولّى، كان يستنجد بالأدب والشعر والفلسفة لفهم قضايا معقدة والسعي لحلها، وكان يهزأ منه هؤلاء الذين أوصلونا إلى ما نحن فيه.
حسن أوريد
مستشار علمي بهيئة التحرير