كما توقعت سابقا على هذا العمود، استأنف المغرب علاقاته الدبلوماسية مع إسرائيل، لا أحب تسمية ذلك بالتطبيع، لما له من إسقاطات وحمولة مشرقية لا تتناسب مع خصوصية المغرب في التعامل مع القضية ومفرداتها، لكنه اتفاق سلام مربح برأيي لكل الأطراف، استطاع به المغرب تحقيق واحد من أكبر إنجازاته الدبلوماسية، بخصوص ملف ارتبط بوجدان المغاربة، وجعل جزءا من التعاقد الاجتماعي القائم بين الملك والشعب، والمؤسس على ضمان استقلال ووحدة البلاد والدفاع عن حوزتها، في مقابل إصلاح إسرائيل لعلاقاتها بالدولة التي ينحدر منها حوالي ما يقارب مليون يهودي، و فتح الأسواق المغربية الواعدة أمام استثماراتها، بمنطق رابح رابح، وبعيدا عن الإيديولوجيا والاستعراض والعاطفة.
لكن المشهد المثير فيما وقع، هو أن يكون الموقع على هذه الاتفاقية هو الأمين العام للحزب الإسلامي بالمغرب الدكتور سعد الدين العثماني، وهو الذي طالما وقف على المنصات مخاطبا الجماهير عن القضية الفلسطينية، ومدغدغا عواطفهم بها، ومتزعما للتظاهرات الضخمة الرافضة للتطبيع، وكاتبا على صفحات “الراية“ و“التجديد“ عن الكيان الصهيوني ووجوب مقاطعته، مما خلف ردود فعل واسعة في الداخل والخارج، بين مرحب و مستغرب ومصدوم ومستنكر وشامت ومتهكم.
شخصيا أقدر هذا الموقف من رئيس الحكومة، إذ يتعلق الأمر بقضية وطنية، وبمجال سيادي لا يمكن معه إلا الاصطفاف خلف رئيس الدولة، ومنحه كل الدعم اللازم في اختياراته التدبيرية. وفي هذا السياق، أيضا، خروج عبد الإله بنكيران رئيس الحكومة السابق لدعم العثماني، ولدعوة كل قواعد الحزب لتبني الموقف الرسمي للمملكة، والكف عن انتقاد العثماني ورميه بالتنازل وخيانة المبادئ.
كل هذا جميل، لكن المشكل في الموضوع أنه لا يمكن بين عشية وضحاها وبدون أي تهيئ سابق، مفاجأة قواعد الحزب باتخاذ موقف يتناقض كليا مع ما تربوا عليه في المحاضن الحركية والحزبية، يتناقض مع عشرات بل المئات الخطب الرنانة عن القضية الفلسطينية، يتناقض مع كل ما كتبته الحركة الإسلامية عن فلسطين داخل المغرب وخارجه، يتناقض مع كل الخطابات الدينية الحماسية التي أنتجت شعار «بالروح، بالدم، نفديك يا فلسطين»، يتناقض مع كل ماشهدوه من معارك حول التطبيع، واعتباره خطا أحمر، والمزايدة على المنافسين بل والدولة بأن هذه مبادئ غير قابلة للتسييس، يتناقض مع استقبال خالد مشعل وموسى أبو مرزوق بمؤتمرات الحزب وشبيبته على أنغام نشيد فرقة الوعد: «لن نعترف بإسرائيل»، يتناقض مع كيف بعد كل هذا الشحن العاطفي والوجداني المطعم بآيات القرآن ونصوص الحديث وقصص التاريخأن يتقبل الواحد منهم بين عشية وضحاها إمكانية إعطاء الظهر لكل ما تربى عليه بحجة المصلحة الوطنية، وهو الذي قد نشأ على أن قضايا الأمة لا تساوم ولا تباع ولا تشترى، بدون أن يتلقى حتى توضيحا بسيطا أو شرحا موجزا؟
ليس من العيب القيام بمراجعات فكرية حتى فيما كان من الثوابت والمسلمات، بل ذلك من القوة والشجاعة، وهو المطلوب من الأفراد والجماعات والتنظيمات، ولكن ذلك لا يكون بالانقلاب المفاجئ في المواقف دون عمل سابق، ودون جهد كبير يشرح أسباب التغيير، وسياقات المراجعة ودواعيها، وتفكيك الأدلة السابقة وسلك كل سبل الإقناع بالطرح الجديد، حينها يمكن الحديث عن المراجعة ويمكن تقبلها، هذا إذا قلنا أن الحزب قد غير قناعاته بخصوص هذا الموضوع، واقتنع بأن أعظم دعم يمكن تقديمه لفلسطين، هو مثل هذه الحلول العقلانية والواقعية. أما إذا لم يكن الأمر كذلك، فتلك مصيبة أخرى، من شأنها الإجهاز على كل ما تبقى من أمل في المشهد السياسي وفاعليه. من ناحية أخرى، أرى أن إسلاميي المغرب بوطنيتهم، التي لا يمكن المزايدة عليها، مطالبون باتخاذ مواقف حازمة تجاه كل من يشكك في سيادة المغرب على كل ترابه، صدمت بالشيخ الحسن ولد الددو الموريتاني الذي طالما كان ضيفا كبيرا على حركة التوحيد والإصلاح وحزب العدالة والتنمية وهو يتحدث باستخفاف عن اعتراف ترامب بسيادة المغرب على صحرائه، ويزعم أنه اعتراف لا قيمة له شرعا ولا قانونا، وأنه لا يملكها ليعترف بها، وأن المغاربة خدعوا كمن اشترى قطعة بالقمر، مثل هذه المواقف لا يمكن التساهل معها، من المقبول معارضة التطبيع أو أي نوع من العلاقة مع إسرائيل، فتلك حرية تعبير لا بد من صونها واحترامها، لكن حين يتعلق الأمر بدعم مشاريع الانفصال ولو تلميحا، فليس أمام ذلك إلا الصرامة والحسم، وهو ما نأمله مستقبلا من إسلاميينا الذين يبدو أنهم اقتنعوا أخيرا أن تازة قبل غزة.
محمد عبد الوهاب رفيقي
كاتب رأي