يمكن الحديث عن بدايات المذهب المالكي في مجال الغرب الإسلامي منذ أواخر القرن 2هـ/ 8م على الأقل، بدء بإفريقية فالأندلس ومن هذه الأخيرة إلى المغرب الأقصى، وقد اضطلعت رحلة العلماء بدور مهم في ذلك.
تضافرت عوامل عدة لانتشار المذهب المالكي في الغرب الإسلامي ومنه المغرب الأقصى، ولعل من أهمها، ما يمكن تسجيله عن الحقبة ما قبل وصول المسلمين للمجال، وتحديدا قدم ظاهرة التحضر في شمال المغرب بفعل الفينيقيين والرومان، مما يفسر هيمنة الفكر المحافظ في المجال، وميل أهله إلى الاستقرار والسلم. كما أن عقلية الأمازيغ القديمة، حسب Basset، جعلت من الطقوس السحرية جوهرا للدين، والاعتقاد في وجود الجن. فإذا ما قارنا هذه العقلية بما تشبث به إمام المالكية وآمن به من قبيل الاسترقاء والتعوذ والتمائم والشؤم والفأل وعين الحاسد، يمكن التساؤل ألم يجد الأمازيغ «في مثل هذه الطقوس متنفسا لتصريف بعض معتقداتهم السحرية القديمة؟». الحاصل أنه لا يمكن استبعاد ذلك، ولعله من الأسباب التي جعلت الأمازيغ «الوثنيين يقبلون، بعد إسلامهم، على المذهب المالكي بحماس». بما يفيد أن مرحلة التاريخ القديم كان لها دور في نجاح المذهب المالكي في بلاد المغرب على المدى الطويل، رغم أن المعطيات حول ذلك ضئيلة.
من عناصر النجاح الأخرى، مرور الأمازيغ بتجربة غير ناجحة مع الخوارج، ثم برز دور الحكام كدعامة للمذهب المالكي، فهذا المذهب يعد من بين أشد المذاهب دعما للنظام السياسي القائم. والأهم من هذا وذاك، ملاءمة بعض أصول هذا المذهب للواقع المغربي، فهو مذهب يختص بكونه أكثر المذاهب مراعاة لمصالح الناس، إذ أنه لم يكن «مذهبا فقهيا فحسب، بل مذهبا سلوكيا أيضا».
إن كثرة أصول المذهب المالكي وتوسعها تنوعا ومقدارا مقارنة مع أصول المذاهب الأخرى، «جعلته أكثر مرونة، وأقرب إلى مصالح الناس، وأكثر تلبية لحاجاتهم وأغراضهم الحيوية، ضرورية كانت أو حاجية أو تحسينية، وأقرب إلى فطرتهم الإنسانية، فالمصالح المرسلة، التي تعد من أبرز أصول مذهب مالك، قد هيمنت على هذا المذهب حتى صارت عنوانه وسمته المميزة، (…) وهذا ما جعل مجال الاستنباط الفقهي خصبا أمام الفقيه (…)،
فيفتي بما يكون للناس فيه مصلحة راجحة، لا تتعارض مع نص محكم أو أصل مقرر». ولو تتبعنا فروع المذهب، نجد أن مستند الأحكام عند المالكية هو الرأي لا النص، وأن المصلحة تُحَكّم في الفروع سواء ظهرت في ثوب القياس أو الاستحسان أم مصلحة مرسلة. وتتعدى هيمنة المصلحة فروع المذهب إلى أصوله خاصة في ظل غياب نص يُحكّم أو أثر يقتدى به.
«وهذا ما جعل المذهب المالكي مرنا واسعا محببا لأنه يتسع، خاصة في باب المعاملات، إلى جميع الطموحات والتطلعات إلى تحقيق المنافع والمصالح».
محمد ياسر الهلالي
تتمة المقال تجدونها في العدد 18 من مجلتكم «زمان»