أسهم التصوف في نشر تعاليم الإسلام بين القبائل، وكان المتصوفة، إلى جانب فقهاء المدارس العتيقة مقوما من مقومات الهوية الدينية لبلاد جزولة.
تعد الفترة الحديثة في تاريخ التصوف المغربي من أزهى المراحل التاريخية، لذلك اخترناها لمقاربة الموضوع من زاوية الصراع والتدافع الذي عرفته المقومات الدينية السنية التي يدافع عنها أرباب التصوف الجزولي وبين المعتقدات السائدة والسلوكات الموروثة.
لا نتحدث هنا عن الإسلام ودخوله إلى المنطقة، فهو أمر يتجاوز من حيث الزمن الفترة التي نقاربها، لكن نتحدث عن أسلمة بمفهوم تصحيح بعض السلوكات وتنقية أخرى من شوائب الوثنية أو أي موروث غير ديني قد يعلق بها.
معلوم أن مجال جزولة مشهور بدخول الإسلام إليه بفضل الرباطات الصوفية والأسر الشريفة التي استقرت به، أو بفضل امتداد السلطة السياسية إليه، خاصة خلال الفترة الموحية. وقد وجد الإسلام في المجال أرضية خصبة للانتشار وازدياد دور الأسر الوافدة سواء من تامدولت عبر باني، أو من الشمال عبر سهل سوس والمنافذ الجبلية المحاذية للأطلس الكبير. وأصبح المجال بعد ذلك حاضنا ومنتجا للأولياء والمتصوفة إلى حد أن قيل عنه: «تنتج جزولة الأولياء كما تنتج الأرض البقول». وتعددت مراكز العلم التي كانت تتخذ في البداية أشكالا بسيطة تدعى «أخربيش»، قبل أن تجتهد القبائل في احتضان المدارس العلمية وتوفير كل مستلزماتها.
وبين هذه الفترة وتلك، نشط المتصوفة وأرباب الزوايا في تأهيل مجتمعهم الجزولي دينيا ومجتمعيا. ولعل أول ما يستوقف قارئ سير هؤلاء المتصوفة، هو التضارب الصارخ بين ما تحتفظ به الذاكرة الشعبية عن حياة هؤلاء، وما دافعت عنه الكتابات العالمة، مما يدل على أن الكتابات نفسها سعت إلى أسلمة الموروث الشفهي عن الأولياء وإخضاعها لضوابط الكتاب والسنة. فسياحة متصوفة جزولة مليئة بإشارات دالة على التعارض الواضح بين ما هو كائن، وهو صمود بعض الممارسات القديمة، وبين ما يجب أن يكون، وهو الترويج لتصوف سني خال من شوائب الشرك ومظاهر الوثنية. وفي ذلك يقول أدفال الدرعي عن أحد متصوفة القرن السادس عشر الميلادي الشيخ أحمد بن موسى السملالي: «لقد سمعت عنه رضي لله عنه حكايتين في قلبي منهما شيء لا يهم ظاهرهما مخالفة الظاهر». ورغم غموض الإشارات حول سياحة شيوخ التصوف، وكذا رغم احتوائها على إشارات متضاربة، فإنها تحمل من الفائدة التاريخية ما يجعل المتأمل فيها، المسلح بالقراءة المنهجية للمناقب، يلاحظ تكرار العديد من الإشارات إلى أن مجال سياحة الأولياء مليء بالأفاعي والأسود والحيوانات الضارية الدالة في القراءة المنقبية على خوض المتصوف لمعارك ضد الأعراف والسلوكات المتوارثة.
خديجة الراجي
تتمة المقال تجدونها في العدد 18 من مجلتكم «زمان»