يعتبر الفيلسوف الفرنسي سان سيمون أن المعارك الحقيقية هي المعارك الفكرية التي تُمهّد لتغيير واقع المجتمعات، وأن الحروب والثورات وإن غيرت لَحى écorce المجتمعات كما تغير الأشجار لحاها، فهي لا تستطيع أمرا كبيرا لجوهرها أو نسغها، بل حتى التجارة، وهي من الأمور التي كان يدفع بها مونتسيكيو من أجل استتباب السلم، فهي لن تستطيع إلا أن تفرض هيمنة القوى، ولذلك ركز سان سيمون على أمرين هما التربية والإصلاح الاقتصادي.
في أقل من عقدين من الزمن، تبينّا أن ثورة التحرير الاقتصادي أو العولمة (مقاربة مونتسكيو)، لم تغير إلا اللُّحى وأفرزت طبقة متنفذة، وأخرى طفيلية اغتنت من تحويلات العملات والخوصصة وتقديم الاستشارة وعمقت من الهوة بين من يملكون ومن لا يملكون، وهددت تماسك المجتمعات وتهددت البيئة. برز واضحا للعيان أن مظاهر التحديث في كثير مما سمي بالاقتصاديات الناهضة زائفة، وتعايشت تلك البلدان مع ممارسات سلطوية منافية لقيم الحرية التي كانت تزعم الدفاع عنها.
وفي أقل من أربع سنوات ظهر جليا كذلك سراب الحراك الديمقراطي في العالم العربي، وبدا أنه لا يكفي أن يرحل مستبد ليرحل الاستبداد، بل أفضى مآل الأمور إلى ممارسات مريعة أشد وطأ مما عرفته في السابق بلدان العالم العربي.
موطن الداء فكري، وهو ينبغي أن ينصرف إلى واجهات ثلاثة، في ذات الوقت، في القدر الذي يسمح له هذا الحيز.
أولا، تحديث الإسلام، أي تجديد الفكر الديني والسعي إلى ملاءمته مع روح العصر وقيمه. تجديد من داخل البنية، وهو عمل من المفترض أن ترعاه المؤسسات الرسمية، وإن كان لا ينبغي أن يكون حكرا عليها.
وأما الثاني فهو الداعي إلى أسلمة الحداثة، مثلما دعت اتجاهات عديدة من أرضية إسلامية قبلت نتاج الحداثة المادي، ورفضت بنيتها الفكرية، أو تربتها التي منها نشأت. والواقع أنه يصعب أن نميز بين هذا وذاك، ولكننا لا نستطيع أن نلقي هذا التيار بحذافيره، ذلك أن عملية الاكتساب ينبغي أن تخضع لتمثل، أو قابلية، مما يفرض عملية نقد وتبيئة كما كان يقول المفكر المغربي عابد الجابري ومواءمة. وقد عرفت مجتمعات عدة نجحت في تمرين الحداثة، هذا الجهد، كما اليابان مع مدرسة كيوتو، أو المدرسة السلافية في روسيا، أو في حدود معينة الاتجاه الرومانسي في ألمانيا ضد نزوعات المنبهرين بفلسفة الأنوار.
وأما الجهد الثالث فهو الذي ينبغي أن ينصرف إلى تحديث المسلمين، أي دفعهم بالأخذ بأسباب الحضارة الإنسانية، وهو أمر يفترض أولا ترسيخ روح النقد وعدم الاستعلاء بالزعم أن المسلمين فوق العالمين، خُصّوا بما لم يخص به سابق ولا لاحق. المسلمون ليسوا أسوء من غيرهم، ولا أحسن من غيرهم، وهم، متى توفرت لهم قابلية التعلم والتهذيب الخلقي، يستطيعون كما فعل أجدادهم أن يبدعوا ويبتكروا، بل هم وصلوا إلى ما وصلوا له إلا حينما تواضعوا لكي يتعلموا من الحضارة البيزنطية، والساسانية، والإغريقية والقوطية.
ليس في الأمر جديد، لأن اتجاهات عدة قامت على هذا المنحى أو ذاك، ولربما الجديد في تجربة نريدها أن تكون واعدة ببلادنا، أن تتم هذه المعركة على الجبهات الثلاثة في ذات الوقت، تحديث الإسلام، وأسلمة الحداثة (أي التفكير فيها من أجل استيعابها)، وتحديث المسلمين.
قرأت، مؤخرا، كتابا لم يسبق لي أن قرأته مع أنه عميم الفائدة، هو حياة محمد لمحمد حسين هيكل (لا ينبغي خلطه مع حسنين هيكل)، جفاه الكثيرون لطابعه العلمي، مع أنه يَشيم تصورا تقدميا للحضارة الإسلامية، انطلاقا من قراءة عصرية لسيرة النبي عليه السلام، باعتبارها حضارة روحية، «النظام الروحي فيها أساس النظام التهذيبي وأساس قواعد الخلق، والمبادئ الخلقية هي أساس النظام الاقتصادي»، لكنها حضارة عقلية، أو ينبغي أن تكون كذلك. وهو يستشهد بالشيخ محمد عبده إذ يقول إن «التقليد بغير عقل ولا هداية هو شأن الكافرين، وإن المرء لا يكون مؤمنا إلا إذا عقل دينه، وعرفه بنفسه حتى اقتنع به. (..) فليس القصد من الإيمان أن يُذلَّل الإنسان للخير كما يذلل الحيوان، بل القصد منه أن يرتقي عقله وترتقي نفسه بالعلم».
وأما الكتاب الثاني، فقد عدت له عودة المضطر لسؤال يتردد في كثير من اللقاءات في ذات النبرة التي طرحها شكيب أرسلان: «لماذا تأخر المسلمون وتقدّم غيرهم»، هو كتاب برنارد لويس «ما الذي حدث» what went wrong. ينتهي برنارد لويس إلى نتيجة قبل أكثر من عشر سنوات، تحققت للأسف الشديد، وهي أن المسلمين ما لم ينكبوا على واقعهم بجرأة عوض رمي الآخر بالتَّعِلّة، ولم يُعلوا من شأن الحرية، فهم منغمرون لا محالة في حالة من الفوضى و الاضطراب. وهو ما وقع، وما يقع.
أعود لما قاله محمد عبده:
«جل ما تراه الآن مما تسميه إسلاما فهو ليس بإسلام، وإنما حفظ من أعمال الإسلام، ومن الأقوال حُرّفت عن معانيها. ووصل الناس بما عرض على دينهم من الخرافات إلى الجمود وعدّوه دينا. فكل ما يعاب الآن على المسلمين ليس من الإسلام، وإنما هو شيء آخر سموه إسلاما».
العقل يقول محمد عبده، والحرية يقول برنارد لويس. ما ضرّنا أن نجعلهما ديدننا في منظومتنا التربوية، و تلك هي المعركة الحق أو أم المعارك.
حسن أوريد
مستشار علمي بهيئة التحرير
صباح الخير يالدكتور حسن اوريد اداء ما متألق كما عادا كتاباتك راءع و جد هامه