رد المرابطون على نصرة الغزالي لهم ضد ملوك الطوائف بإصدار فقهائهم فتوى تقضي بإحراق كتابه «إحياء علوم الدين». مات الفقهاء، ولم يمت الكتاب.
أقدم المرابطون على إحراق كتاب «إحياء علوم الدين» لأبي حامد محمد الغزالي (450-505هـ/1058-1111م) تنفيذا لتوجيه كثير من فقهاء السلطة. وقد حظيت هذه القضية، مثلما الكتاب، باهتمام خاص من قبل الفقهاء الذين عاصروا هذا الحدث، ومن جاء بعدهم، واستمر هذا الاهتمام لدى الكثير من المحدثين، كتعبير عن حيوية المشروع «الإحيائي».
يعتري موقف المرابطين من الغزالي و«إحيائه» كثير من الغموض ونقاط الاستفهام، فمن غير الخفي أن الغزالي كان من المساندين لتأسيس الدولة المرابطية، وأفتى بنصرتها ضدا على ملوك الطوائف، وإذا بالوضع ينقلب ليتقرر إحراق كتابه «الإحياء».
لابد من التنبيه بداية أن مصادر الموضوع متأخرة عن الحدث نفسه، وقد كان للرواية الموحدية المعادية للمرابطين أثرها في إضفاء الضبابية عليه وتعتيمه. فأقدم نصوص حادثة إحراق «الإحياء»، التي تحوي بعض التفصيل، ترجع إلى النصف الأول من القرن 7هـ/13م، وأهمها على الإطلاق كتاب «نظم الجمان» لابن القطان الموحدي الهوى.
عندما كتب الغزالي «الإحياء» في المشرق الإسلامي، لم يكن يقصد توجيه مضمون كتابه لسلطة من سلطات الوقت بعينها وخاصة المرابطين البعيدين عنه مجاليا، في الوقت الذي التصق فيه إحراقه بالمرابطين وفقهائهم الموالين. فلماذا اهتم المرابطون، دون سواهم مغربا ومشرقا، بما جاء في الكتاب؟ وهل ثمة شيئا فيه أزعجهم؟ وهل من سبيل إلى التعرف على العنصر «المشوش» وكشف أثره على الفقهاء المالكية الأندلسيين الذين انزعجوا من الكتاب قبل غيرهم وأكثر من غيرهم؟
وصل كتاب «الإحياء» إلى الأندلس قبل ثمان سنوات من صدور فتوى إحراقه كأقل تقدير، بما يفيد أن الفقهاء المالكية الأندلسيين، بعد مرور هذه المدة من الزمن، تنبهوا إلى أشياء وردت في الكتاب أثارت امتعاضهم واعتراضهم، صرفوها عبر فتوى قاضي الجماعة بقرطبة أبو عبد لله محمد بن حمدين (439-508هـ/1074-1114م) عرَّاب الإحراق ومكفر صاحبه، في سياق ثقافي أندلسي مطبوع بحساسية الفقهاء المالكية تجاه عدد من الاتجاهات الفكرية والمذهبية بما فيها التصوف. ويكون بذلك قرار الإحراق قرارا جماعيا من فقهاء قرطبة بـ«ناطق رسمي»، ارتأوا أن الكتاب «يضر بالمسلمين». فعلى أي أساس يقوم هذا «الضرر»؟
محمد ياسر الهلالي
تتمة الملف تجدونها في العدد 24من مجلتكم «زمان»