لقد وظف العلويون، مند قدومهم وعلى مدى القرون، “مؤسسة” إمارة المؤمنين لتقوية السلطة وبناء دولة مركزية تشمل ما هو ديني ودنيوي.
يقال إن السلطة في الإسلام لا تقبل التجزئة، بمعنى أن الخليفة أو السلطان هو الذي يمسك بكل خيوط السلطة، لا فرق فيها بين ما هو ديني وما هو دنيوي. هذا التصور سيعمل سلاطين المغرب على تطبيقه، وسيحاولون احتكار كل السلط باسم الدين الذي يمنحهم اختصاصات لا حد لها، حتى وإن اقتضى ذلك الصدام مع العلماء الذين جعل الله منهم ورثة للأنبياء.
صلاحيات الخليفة أمير المؤمنين
خلال القرون الخمسة الماضية، شهدت الدولة المغربية توجها متزايدا نحو المزيد من المركزة. وأصبح ذلك ضروريا لتغير طبيعة الدولة وانتقالها من “إمبراطورية” إلى دولة وطنية محدودة المساحة. كما أن تنامي القوى الدينية من شرفاء وزوايا وانتشارها في كل بقاع البلاد زاحم السلطة “الدنيوية”، أي سلطة المخزن، مما جعل هذا الأخير في صراع حاد ومتواصل مع القوى الدينية التي أرادت أن تزاحمه سواء في الميدان الديني أو الدنيوي. وإذا كان السلاطين العلويون المؤسسون كالمولى إسماعيل أصحاب سيف أكثر منهم أصحاب قلم، فإن الأمر سيتغير ابتداء من القرن الثامن عشر عندما وصل إلى الحكم سلاطين لهم إلمام بالعلوم الشرعية وتواقون إلى تسيير الشأن الديني بما يضمن تقوية الدولة وتكريس قيادة إمارة المؤمنين للحقل الديني.
إن هذا الاهتمام بمركزة الدولة وتسخير الدين لتقوية اختصاصات السلطان في الحقل الديني بالخصوص جاء كجواب على وضعية تميزت ببروز قوى دينية من متصوفة وزوايا وشرفاء منحهم المجتمع مكانة خاصة وامتيازات واسعة ستزاحم مكانة الدولة، خاصة ضمن القبائل وفي المناطق الجبلية والصحراوية التي لم يكن المخزن يصل إليها بسهولة. بل إن هذه القوى الدينية لم تكتف بالامتيازات المادية والقيادة الروحية التي مارسها شيوخ التصوف والشرف، إذ أصبح هؤلاء الشيوخ يتطلعون إلى الحيلولة محل السلطة السياسية الغائبة، كما حدث قبيل مجيء العلويين عند منتصف القرن السابع عشر. فبعد انهيار الدولة السعدية، عاشت البلاد فترة اضطرابات وفراغ سياسي سمح لبعض الزوايا أن تؤسس إمارات قائمة الذات كما حدث في وسط المغرب مع الزاوية الدلائية، أو في سوس مع السملاليين. وبالفعل، فإن سحق الزاوية الدلائية شكل أكبر تحد أمام العلويين الأوائل وعلم المولى إسماعيل درسا سيعمل به كل السلاطين اللاحقين، ألا وهو المراقبة الصارمة للقوى الدينية، وخاصة الطرق الصوفية والزوايا، وضمان التزامها بحدود المجال الديني الصرف. وهو نفس السلوك الذي اتبعه تجاه الشرفاء، وخاصة شرفاء الشمال والأدارسة منهم على وجه التحديد، لأن وصول العلويين إلى الحكم، بعد السعديين الذين جاؤوا هم كذلك من الجنوب، رأى فيه الكثير من شرفاء الشمال إقصاء لهم وتهميشا لسلالة شريفة تأتي في مقدمة المنتسبين لآل البيت.
محمد المنصور
تتمة المقال تجدونها في العدد 82 من مجلتكم «زمان»