مثل الزواج السلطاني أو المصاهرات السلطانية، في تاريخ المغرب الحديث، وسيلة للحكم عبر خلق قاعدة بشرية موالية في مناطق حيوية، لها من النفوذ ما يؤهل أعيانها للظفر بحظوة القرب من الدار العالية بالله، وخلق تحالفات مع مجموعات بشرية قادرة على تشكيل قاعدة خلفية مأمونة الجوانب.
إذا كان من الصعب معرفة العدد الحقيقي لنساء بلاطات السلاطين، نتيجة لطابع السرية الذي اكتنف الحياة داخلها، ونظرا لخضوع مؤسسة الحريم إلى التجديد المستمر، فإن الكتابات سواء المحلية أو الأجنبية احتفظت بأسماء بعض الزوجات اللائي استطعن فرض أنفسهن، من خلال المكانة التي كن يتبوأنها لدى السلطان، والتي ازدادت في حالات إنجابهن لأبناء ذكور، جعلوا منهن فاعلات أساسيات في تهيئ الأمير القادر على الظفر بمنصب الخلافة.
وركزت كتابات المرحلة من هذا المنطلق، على الأمهات اللائي تمتع أبناؤهن الأمراء بحظوة القيام بمهام حيوية، من قبيل تسيير الجهات والأقاليم وقيادة الجيوش، أي الذين شاركوا في صنع الأحداث إلى جانب السلطانين، أو على الأقل التأثير في مجرياتها، فاختلفت صور الزوجات باختلاف حجم المنجزات التي حققها الأبناء في واقع البلاد. غير أن الإخباريين أوردوا تلك الصور بشكل عابر، وفي إطار تناولهم للوقائع التي اعتادوا على تدوينها، ولم يعمدوا إلى الاهتمام بها من زاوية منفصلة، على اعتبار أنها ظلت تصنف في خانة المسكوت عنه، وفي جعبة الأمور السلطانية الخاصة التي يحظر الخوض في تفاصيلها. ففيما يتعلق مثلا بأحمد المنصور، هيمنت ثلاثة أسماء من زوجاته، لالة عائشة ولالة جوهر أو الخيزران ثم لالة مريم، واعتبرت الثانية أقواهن وأكثرهن حضورا في التدخل في بعض القضايا الجوهرية، حيث كانت لها سلطة كبيرة على أبرز القواد العلوج، وهو ما دل على مساهمتها في اتخاذ قرارات حاسمة همت تسيير شؤون البلاد، وتأكد مع استدعائها لأعيان فاس ونظرائهم من مراكش المرافقين لزوجها، بغية التوسط لديه من أجل العفو على ابنها محمد الشيخ المأمون بعد تمرده.
أما في عهد المولى إسماعيل فتبوأت الصدارة على التوالي، خناتة بنت بكار وعائشة مباركة المعروفة بزيدانة، والسيدة أم العز، ثم لالة حليمة. فخناتة «كان لها كلام ورأي وتدبير… ومشاورة في بعض أمور الرعية… وكانت له (السلطان) وزيرة صدق وبطانة خير تأمره بالخير وتحرضه عليه وتتوسط في حوائج الناس… وكانت في ذلك ركنا من الأركان…».
فقد تكفلت على سبيل المثال بالنيابة عن زوجها خلال فترة مرضه، وجمعت الحجاب وأصدرت لهم تعليماتها ليدبروا أمور البلاد، كما كان يرغب السلطان في ذلك، حتى شفي وبادر إلى إدارة البلاد بنفسه. ونالت عائشة مباركة الإكرام والاحترام من لدن المولى إسماعيل، بفعل رجاحة عقلها وحسن تدبيرها، فلم يتردد في استشارتها والأخذ برأيها، لأن «من أراد أن يقضي حاجته عند مولانا إسماعيل عزما، فليهادها قبل أن يلتقي به». وهو ما تشهد عليه مشاركتها في إدارة البلاد. ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل أثبتت الوثائق الإسبانية وجود مراسلات بينها وبين الملكة الإسبانية ماريا لويسا كابريال ذي سابويا، زوجة الملك فيليب الخامس سنة 1703م، مما يدعم ما أوردته مصادر أجنبية أخرى، عن كونها المرأة الأكثر تأثيرا في سياسة المولى إسماعيل.
وقامت لالة أم العز بأدوار مماثلة جسدت مكانتها ووزنها داخل البلاط، إذ توسطت للسفير الإنجليزي شارل ستيوارت، لما تعثرت مفاوضاته حول افتداء الأسرى سنة 1721م، وراسلها فعبرت له في جوابها عن استعدادها لتلبية طلباته، عبر تليين موقف زوجها من مسألة الفدية وطريقة أدائها. كما كان الرهبان الفرنسيون المكلفون بتحرير الأسرى، يقصدون نساء المولى إسماعيل، لتمهيد الطريق أمامهم، وإزاحة كل العقبات التي تحول دون بلوغهم لأهدافهم. وهمت الوساطة حتى العلاقات بين المولى إسماعيل والأطر المخزنية، إذ كانت زوجاته يتوصلن بهدايا مختلفة من حكام المناطق، الذين يرغبون في الحفاظ على علاقات جيدة مع السلطان، بل إن أي شخص كان يرغب في الحصول على عمل أو على عفو عليه أن يطرق بابهن.
محمد جادور
أستاذ التاريخ الحديث، كلية الآداب، الرباط
تتمة المقال تجدونها في العدد 3 من مجلتكم «زمان»