توفر المغرب، عبر تاريخه، على قضاء سيادي فعال ومرن مجاليا. غير أن أهم ما تميز به هو تنوعه. فقد كان هناك قضاء الشرع الذي مارسه العلماء وفقهاء الدين، كما كان هناك قضاء المخزن الذي اختص في القضايا الجنائية والجنحية. وقد ظهر هذا القضاء المخزني وتطور منذ العصرين المريني والوطاسي في الحواضر. فيما استند الأمازيغ إلى أعرافهم للتأسيس لقضاء، لعل أهمه ما عرف بـ”إنفلاس”، قصد تدبير الخلافات والخصومات. وكان “إنفلاس”، وهو مجلس ممثلي أسر الدوار أو الفخذة، يمارس كل السلطات القضائية والإدارية والتشريعية. من جهتهم، توفر المغاربة اليهود على قضاء خاص بهم، أشرفت عليه المحكمة الربية التي تعرف بـ”دار العدالة” أو “بيت الدين. يتطرق الملف الذي تقترحه عليكم “زمان”، أيضا، إلى القضاء السلطاني الذي مارسه الجالس على العرش نفسه، وكذلك إلى القضاء القنصلي الذي ظهر انطلاقا من القرن السابع عشر حين بدأت أطماع الأوربيين تتربص بالمغرب.
القضاء هو «إخبار عن حكم شرعي على سبيل الإلزام» لاسيما في المجالات التي يهيمن عليها الشرع الإسلامي. وهو، وفق ابن خلدون، «الفصل بين الناس في الخصومات حسما للتداعي وقطعا للتنازع». وعليه، كان للقضاء مكانة عظيمة لدوره في استتباب الأمن في المجتمع من جهة، ودعم شرعية الحكم من جهة أخرى.
شكلت الكفاءة العلمية العالية للفقيه في العلوم الشرعية أحد أهم أسس تولي منصب القضاء زمن الدول المركزية المغربية خلال العصر الوسيط. لهذا، التفت هذه الدول، وهي تبحث عن من يتولى هذا المنصب، إلى المنتسبين إلى البيوتات العلمية العريقة التي اشتهر بعضها بتوارث أفرادها للمناصب القضائية.
التزم القضاة في الدولتين المرابطية والمرينية بالمذهب المالكي، الذي لم يغب مع الموحدين وإن حضر المذهب الظاهري وتعاليم المهدي بن تومرت معهم. لهذا، كان بعض القضاة خلال العصر الموحدي، ولاسيما مع عبد المؤمن، منتسبين إلى هيأتي الحفاظ وطلبة الحضر، المتمكنين من العلوم الشرعية وتعاليم المهدي بن تومرت في الآن ذاته. ويرجح أن التعيين في سلك القضاء، كان في العديد من الحالات مسبوقا بتدرج المعني بالمنصب في بعض الخطط الدينية.
لم يكن الأصل المغربي أو الانحدار من العصبية الحاكمة شرطا في تولي القضاء في المغرب خلال عصر الدول المركزية، إذ تولى عدد من الأندلسيين ومنتسبون إلى المغربين الأوسط والأدنى مناصب قضائية مختلفة في المغرب الأقصى، بل تولى أحد المصريين قضاء عدة مدن في المغارب ومنها مدينة فاس خلال عهد يعقوب المنصور الموحدي.
تتمة المقال تجدونها في العدد 73 من مجلتكم «زمان»، نونبر 2019