سألني صحافي عن السجال الدائر رحاه حول وضع الدارجة في بلادنا، والصخب الذي طفح عقبها، أهي حرب لغوية في البلاد؟ عقبتُ كي أقنع نفسي أكثر من أن أقنع محدثي، بل هي مناوشات…
لكن ما الفرق ما بين المناوشات والحروب؟ ألا تكون الأولى توطئة للثانية، وقد تستعر و يأتي أوارها على الأخضر واليابس؟ هل يمكن أن نستهين بهذه المناوشات الثقافية ولا نرى فيها إلا هلوسات مثقفين لا خطر منها ولا أثر.
هناك دراسة قيّمة حول المناوشات اللسانية أجراها المؤرخ والمفكر اللبناني الشهير المرحوم كمال صليب، عن الوضع الثقافي في لبنان في الأربعينات والخمسينات، وكيف أن المعارك اللسانية والثقافية المستعرة حينها، أضحت معارك بالكلاشينكوف في السبعينات.
نعم، لكل حالة خصوصيتها، ولكن ينبغي أن ننظر أبعد مما يُرى، ونستجلي ما لا يُرى. فأول الحرب الكلام، والنار بالعودين تُذكى، كما في البيت الشهير الذي ذهب مذهب الأمثال.
المناوشات حول اللغة، أو المنظور الثقافي، ليست هي السبب المفضي للاصطدام، بل هي مؤشر على تهلهل السدى الناظم، أو العقد الاجتماعي، لأن الصراع حول اللغة يخفي صراعا حول السلطة، وحول المصالح الاقتصادية، ويمكن لهذه القوى أن تستتر وتتحرك في الخفاء. ويمكن أن نقول كذلك إنه حينما يتهلهل العقد الاجتماعي، أو الطموح الجماعي يتم تأجيج القضايا الثانوية وتستفحل المشاكل العارضة، ويحدث غالبا هذا الذي يسمى بالخلط بين السبب والنتيجة، Métonymie ويستعصي جراء ذلك التشخيص الدقيق.
ميزة المثقف على السياسي، أن هامش الخطأ لديه أوسع من السياسي، وأن خطأه حين يقع، يمكن أن يكون أرضية للتصويب، فهو بنوع من الأنواع نازع ألغام، وهو لو حدث، لا قدّر لله، إن انفجرت عبوة (مجازيا طبعا) وأودت به، كان خطؤه فِداء للجماعة. ولذلك بناء على هذا الهامش الذي تسمح به مهنة الأفكار، نزعم أنه لا ينبغي العبث بما هو سدى تاريخي وثقافي وذو حمولة نفسية، كما لا ينبغي أن يجري الحوار الهواة ويغلب اللجاج والسباب على ما هو حيوي واستراتيجي.
مشكل اللغة، في بلادنا ليست بالأمر الهين. ولا يمكن أن نرتكن في حلها لأي سابقة، أو حالة معينة. وينبغي في جميع الحالات أن ننطلق من الجغرافية، أن ننظر إلى وضعنا الجغرافي في الخارطة الكونية، ونسعى من خلال هذا الموقع أن نجيب على سؤال اللغة. ثم بعده أن نتساءل عن القصد الذي نبتغيه؟ لكن بذات الوقت لابد أن ننطلق من واقعنا. لا يمكن أن نقفز على هذا الواقع، بتعقده وتشعبه وتناقضاته.
من العسير أن نرى في الضجة التي أثيرت حول الكتب المدرسية غيرة وحدها على اللغة العربية، وصحوة ضمير. لا يمكن أن نفصلها عن مصالح مالية واقتصادية، لمن يعتبرون أنفسهم مقصيين من الدفتر المدرسي، وهو ريع جديد، تستفيد منه الحيتان الكبيرة من أصحاب المطابع.
مسؤولية وزارة التربية الوطنية قائمة، لأنه لم يكن لها أن تتخلى عما هو من صميم اختصاصها، أي البرامج، وما تخلت عنه منذ وزراء “اشتراكيين” دبروا قطاعا عاما بامتياز، بمفاهيم القطاع الخاص، من طلب عروض، والجودة، والنجاح، وما شابه ذلك من الشعارات.
في هذه القضية، قضية اللغة، التي يمكن أن تنفلت حتى من أيادي من قد يحركها، لا بد من حوار متأن من ذوي المعرفة العلمية، والرؤية السياسية والزكانة (Pertinence) والحكمة.
لا بد أن ننطلق من سؤال بسيط، ومن خلاله نسعى أن نجيب على القضايا المعقدة المرتبطة بالتربية، هل المرجعيات الفكرية أيا كانت، في خدمة المغرب، أم المغرب في خدمة مرجعيات فكرية. إذاك قد يسهل ما هو عسير.
حسن أوريد
مستشار علمي بهيئة التحرير