لعل ما تعيشه فرنسا اليوم في علاقتها بالآخر، شبيه بما عاشته في خضم الفترة الاستعمارية حين لم تحسن قراءة حركية التاريخ، ودينامية الشعوب، فواجهتها بالبطش.. كانت فرنسا تدفع بالمهمة الحضارية، وتزعم أنها أخرجت أقواما عدة من القرون الوسطى، وشقت الطرقات، واستصلحت الأرضي الزراعية وعلمت “الأهالي” لغتها وقيمها حتى أضحوا يرددون على كراسي المدارس “أجدادنا الغوليون”، ولكن نظرة فرنسا المتصلبة لم تثبت لدينامية التاريخ. لم يكن الغوليون أجدادا للفتناميين ولا للأفارقة ولا لسكان شمال إفريقيا، وواقع الاستعمار كان الاستغلال والاضطهاد.
تعيش فرنسا أزمة وجودية، وتزعم بحرية التعبير كما كانت تدفع من قبلُ بالمهمة الحضارية، ولو أن ما تدفع به هو في حقيقة الأمر انزعاج من التعدد الذي يطبعها، بدليل أن رئيس فرنسا قبل اغتيال الأستاذ صمويل باتي ندد بما أسماه بالانفصالية الإسلامية، وانتقد الإسلام.
أول ما ينبغي التذكير به، هو التنديد بالعنف، وبكل ما يمس أول حق للإنسان، وهو الحق في الحياة. قلنا بهذا دوما على متن مجلة “زمان”، ولم نفرق بين ضحية وضحية، قلناه في مجزرة “شارلي إيبدو”، ولو أننا لم نذهب لترديد أنا “شارلي إيبدو”، ورددنا شجبنا بقوة مع مجزرة باتكلان، وحينما تم التعرض لسائحتين دانماركيتين في أمليل، قبل سنتين. ونقوله اليوم تنديدا بمقتل الأستاذ باتي.
نناصر الحق في الحياة، ونناهض بقوة من يتجرأ على حق الإنسان الأول وهو الحق في الحياة، من غير تمييز.
نعم لحرية التعبير، لأن لا فكر من دون حرية التعبير، لكن الفكر ليس هو الاستفزاز، وليس هو الإزراء بالآخر، وليس هو التمادي في الاستفزاز. الفكر هو القدرة على التمييز، وهو المساحة الممتدة ما بين الأسود والأبيض، وكل لويناتها… ينبني الفكر على الشك، وعدم الانطلاق من حقائق مطلقة، والنسبية واحترام الآخر.
حينما قدحت فرنسا فلسفة الأنوار، اعتبرت أن قيمها كونية، وأقامت تعايشا سلميا ما بين الحضارة والثقافة. أتيح لها أن يكون لها رجالات أفذاذ أدركوا أنها لا يسوغ مواجهة ثقافة مختلفة باستعلاء، من ذوي الفكر، وممن دبروا شؤون المستعمرات، واعتبروا أن احترام الثقافات المغايرة، هو ما يسهم في الارتقاء نحو العالمية.
من حق الرئيس الفرنسي أن يدافع عن قيم الجمهورية، وأن يدعو مواطنيه المسلمين احترام قواعد الجمهورية، وليس من حقه أن يجري تقييما على أي دين، أو أن يجري حكما على الإسلام، والقول بأنه يعيش في أزمة.
ومن حق فرنسا أن تدافع عن حرية التعبير والرأي، ولكن هل الاستفزاز فكر؟ هل التمادي في نشر صور مسيئة لرموز الإسلام من حرية التعبير؟ ألسنا في دائرة الاستفزاز؟ قد تزعم الرؤوس المفكرة في فرنسا أن الدين لم يعد مقدسا في فرنسا، ولكن ليس معناه أن المقدس انتفى. المقدس متحول، وقد لا يكون الدين بالنسبة لفرنسا، ولكن الدين ورموزه مقدس بالنسبة للمسلمين وشرائح واسعة منهم. تدافع فرنسا عن حرية المعتقد، ولكن حرية المعتقد لا يمكن أن تقوم مع ازدراء الآخر في معتقده، وفي طقوسه، ورموزه، ونصوصه.
تدعو فرنسا للحوار العقلاني، وأي حوار حينما تتمادى فرنسا في الاستفزاز، بإصدارها لأحكام قيمة عن الإسلام، والتمادي في نشر الصور المسيئة للإسلام؟ هل يعتبر ذلك من العقلانية؟
ترفع فرنسا شعار الحرية والمساواة، وتذهل عن المقتضى المكون لشعارها وهو الإخاء…
تغضب فرنسا من الدعوة لمقاطعة بضائعها، وكيف لها أن تفعل وهو ما يدخل ضمن حرية الاختيار؟
كنت آمل حقا أن تنبري فرنسا بعد ما تعرضت له في يناير 2015 إلى تفكير عميق فيما يعبر عنه مختصوها بصياغة الوجدان، وفي حوار حقيقي، بين الضفتين، وقلت الأمر ذاته بعد مجزرة باتكلان في قناة فرانس 24 يوم 20 نونبر 2015 أننا في ذات المركب، من أجل حوار يجنب الصدام الحضاري. تبين أن الهاجس الأكبر لفرنسا هو الأمني أو ما كانت تدعو باستئصال التطرف
“Déradicalisaton” مما أوحى به عالم النفس التونسي فتحي بنسلامة، وأخفق، وتبين أن ما تبتغيه فرنسا من الآخر، أن يكون صدى لرؤيتها، ويسبغ الشرعية على مقاربتها.
فرنسا دولة علمانية، والعلمانية ليس معادة الدين، ولا معنى لما كان يسميه البعض بالعلمانية الإيجابية..
تدفع فرنسا بالعيش المشترك، ولا عيش مشتركا من دون احترام الآخر..
فرنسا أمام امتحان صعب، ستفقد فيه روحها، تلك التي تستقيها من فلسفة الأنوار، والتي تجعل الدين موضعا للتفكير، وليس موضوعا للاستهزاء. فرنسا معرضة لكي تفقد أصدقاءها إن بقيت في نظرتها المتشنجة، ومن ثمة مكانتها. عليها أن تراجع نسختها.
حسن أوريد
مستشار علمي بهيئة التحرير
اتفق كليا مع المفكر والأديب والشاعر حسن اوريد. فقط أزيد هل فرنسا فعلا تنسجم مقوماتها الفكرية و السياسية مع ما يفرض عليها لاستقطاب اليمين الراديكالي. مع الشكر.
هذه هي الحقيقة فرنسا الاستعمارية تريد ان تمس من اشرف الخلق والذي يعيشون من رحمته من دون عذاب في انتظار الاخرة… الاستفزاز والمس من مقدسات الناس ليس حرية راي او تعبير بقدر ماهي جهل واحتقار للاخر…