تحيل محاكم التفتيش إلى سابقة عرفتها اسبانيا في تاريخها بعد نفوذ رجال الدين في البلاط، وبروز نجم مفتش الضمائر توريكيمادا، والدوق ليرما وقبلهما سيسنروس. كان رجالات الكنيسة يُجرون اختبارا للضمير، وباسم نظرتهم ورؤيتهم ارتُكبت مظالم جمة، فقُتل أفراد وأحرقوا وعذبوا وأبيدت جماعات، لا لشيء إلا لأنهم لم يكونوا يطابقون نظرة مفتشي الضمائر حول المسيحية، أو لأنهم يعتنقون دينا آخر، ومنهم جماعات اليهود المعروفون بالمرانوس، والمسلمون والمسيحيون الجدد المعروفون اصطلاحا بالمورسيكيين.
كان للضمير الإنساني أن ينهض ليقف ضد هذه الفظائع، و يتصدى للزيغ في تأويل الدين، فحملت فلسفة الأنوار مسؤولية تحرير الإنسان من كل أسباب الافتئات، فأعلنت حرية الفكر، وأقرت حرية العقيدة، ورفعت شأن العقل، وقال فولتير قولته المدوية : قد أخالفك الرأي ولكن سأدافع عن حريتك في الفكر حتى آخر رمق، وقياسا قام فولتير بالدفاع عن شرف يوحنا كلاس الذي حكمت عليه الكنسية بالشنق ظلما وبهتانا على أساس أنه تحول للبروتستانتية ونفذت عليه الحكم. إن ما أكسب فولتير مكانته في تاريخ فرنسا بل البشرية، هو هذا الدفاع المستميت عن حرية العقيدة، وهو ما أوحى له بعد حادث كلاس بكتاب صغير الحجم، ثقيل الوزن، “كتيب التسامح”. لم نعرف نحن فلسفة الأنوار إلا اقتباسا، وظلت التقاليد المرعية هي المتحكمة، والأفكار المسبقة هي المتفشية، وعرفت بلادنا في فجر الاستقلال اختبارات عدة حول مدى استيعابها للفكر الحر، ونحتْ في الغالب نحو رؤية منمطة في العقيدة والثقافة والسياسة. كان الاتجاه الغالب الذي يدعو له اتجاه سياسي، هو رؤية ثقافية تقوم على لغة واحدة، تُفرض فرضا، لأنها قوام “الهوية المغربية”، وكانت ترى، سياسيا، أن تتوحد الاتجاهات كلها في حزب وحيد وعتيد، وباسم هذه النظرة، رفضت مبدأ لا تستقيم الحياة العصرية من دونه، ألا وهو حرية العقيدة. كانت بلادنا موضعا لاختبار، من خلال قضية هزت البلاد في بداية الستينات، هي قضية محاكمة من اعتنقوا البهائية، فحوكموا بمقتضيات أحكام الردة، فحقّت ببعضهم أحكام الإعدام، ولولا الضغط الدولي لكنا نجر معرّةً يصعب التحلل منها.
ومن الحَوَل إن لم يكن من العمى، ألا نُقر بالتقدم الذي عرفته بلادنا في قضايا اجتماعية وثقافية وسياسية، فأصبحنا نقر بالتعدد الثقافي، ولم تعد الأمازيغية طابوها، ولم نعد نتستر عن وضع المرأة، وأقرت مدونة الأسرة مقتضيات جبرت الضرر الذي تعرضت له المرأة في الأحكام، وتبني القانون الأساسي منذ صيغته الأولى رفض الحزب الوحيد، وتبنينا مبادئ حقوق الإنسان كما هو متعارف عليها دوليا، وعرف الدستور الحالي طفرة نوعية في مقتضياته العامة، ولكن الموضوعية تقتضي أن نعترف أنه رغم هذه الطفرة النوعية لم نجرأ بعدُ على تبني شيء أساسي، في أي منظومة حديثة، وهي حرية المعتقد. لا يمكن أن نعود القهقرى، فنتمسك بأحكام الردة والاستتابة والحسبة والدعوى إلى التكفير، وما شابه ذلك مما لا يستقيم مع دولة عصرية، ومجتمع يصبو للحداثة. نعم ينبغي أن تواكب حرية المعتقد قوانين تفرض احترام الأمن العام، وعدم الهزء بالأديان، أو استغلال أوضاع اجتماعية معينة للتأثير على أشخاص أو جماعات في وضع هش، أو الدعوة للكراهية أو التجريح في المشاعر الدينية للمجتمع أو استفزازه بأي شكل من الأشكال، في مقدساته ونصوصه ورموزه وأماكن عبادته، إذ ما يُطلب من المغاربة، أيا كانت عقيدتهم، أو حتى لو لم يكونوا يدينون بدين، وهو حقهم، هو احترام مؤسسات البلاد، والدفاع عن حوزتها وعدم التآمر ضدها، والإيمان بوحدتها الترابية والوطنية والقيام بالواجبات التي يفرضها الوطن.
كثيرا ما نُصوّب حرابنا للدولة ننتقدها، ومن المفترض أن يكون المجتمع المدني متقدما على الدولة التي هي بنية ثقيلة ومحافظة، ولكن ما نلحظه أحيانا هو العكس تماما، حيث تكون بعض فعاليات المجتمع المدني التقدمية متخلفة عن الدولة، ومجافية للمبادئ العالمية والقيم الإنسانية.
إن أسوأ ما يسيء للعدالة هو أن نحبسها في قالب إيديولوجي، أو حتى في نص قانوني، فتطبيق القانون ليس بالضرورة صنوا للعدالة، وكذلك الالتزام بحرفية دين ليست بالضرورة معبرا عن الإيمان، ولا هو رديف للفهم العميق للدين وما يرمي إليه من إحسان، أو أخلاقية بتعبيرنا الحالي، والالتزام بإيديولوجية ليس هو بالضرورة أحسن وسيلة للدفاع عن قضية.
إن مما يَسُر هو أنه في الوقت الذي يتنابز فيه ذوو الرأي، نجد أن مجتمعنا بعيد عن لغط النخبة ومتقدم عنها في سلوكه. إن مما أفخر به، هو أن رهبانا اختاروا أن يعيشوا بين ظهرانينا بعد إذ قُتل إخوتهم في تبحرين بالجزائر. اختاروا أن يعشوا في دير قصبة مريم بإغرم ن تاعكيت في ضاحية ميدلت، يبادلون ساكنتها حبا بحب، يحترم ساكنة البلدة عقيدتهم، ويحترم الرهبان دين الساكنة. لم يَبدُ منهم أية نية للتأثير على عقيدة الساكنة، ولم يصدر من الساكنة ما يهزأ بهؤلاء الرهبان. إنني لا أود أن أختزل بلدي، في رقعة جغرافية، وعلم ونشيد، إني أريده فكرة، فكرة للتسامح، واحترام الآخر، فكرة تكون منارة تهدي أهلها ويهتدي بها مَن حولها، فكرة يتفيأ ظلها المحروم والمكروب والطريد، فلا يُفتن ولا يُؤذى. لقد قطع بلدنا أشواطا مهمة أكسبته احترام المنظومة الدولية، وعليه ألا يقف في منتصف الطريق. لا مكان لمحاكم التفتيش بيننا. نعم لحرية العقيدة، والوطن يسع أبناءه من كل المشارب والعقائد. ألا ما أصوب قول فوليتر إذ يقول: “لا تسْعوا أن تُضّيقوا على القلوب، تكُنِ القلوب كلها لكم.”
Ne cherchez point à gêner les cœurs et tous les cœurs seront à vous.
حسن أوريد
مستشار علمي بهيئة التحرير