عشرون عاما مرت على قرار هام طبع بداية “العهد الجديد” في البلاد. يتعلق الأمر بحدث إعفاء وزير الداخلية القوي الراحل إدريس البصري، والذي أحكم قبضته بيد من حديد على أم الوزارات لعقود طويلة من الزمن، كان البصري بتاريخه الطويل رمزا لمرحلة أصبح إرثها ثقيلا جدا.
بين 1999 و2019، جرت الكثير من المياه تحت الجسر، وظل البصري يشغل، لفترة طويلة، العقول ونسجت حوله وحول أدواره وسلطته العديد من الأساطير. نادرة هي الشخوص التي حظيت بكل هذا الاهتمام والتركيز. كان البصري واحدا من أولئك -إن لم يكن أولهم- الذين بصموا أحلك وأعقد فترات التاريخ المغربي في مرحلة ما بعد الحماية. وصل البصري ليعوض جنرالات وازنة قيل عنها الكثير كذلك، فليس من السهل أن تأتي بعد أوفقير والدليمي. لكن ذلك كله لم يكن لينقص من وزن وثقل وتفوق البصري السياسي. حتى أصبح الرجل رمزا وعنوانا كبيرا وجامعا لمرحلة مؤسفة تصفها السرديات التاريخية بـ”سنوات الرصاص”، من ترقيه السريع جدا إلى طغيانه على الفضاء العام وعلى رأسه الإعلام. تلك قصة صعود مثيرة وعجيبة تستحق أن تروى.
يتذكره طلاب الاتحاد الوطني للمغرب في سنوات الستينات والسبعينات كضابط شاب ينتمي للاستعلامات العامة، من خلال دراسته وفحصه لتيارات الحركة الطلابية النشيطة في الجامعات التي كانت تعج غضبا واحتجاجا. مثل ذلك مختبرا مناسبا للملاحظة والتكوين الذاتي لرجل بطموحات شرهة، فلم يتردد في وضع يده على هذا الجسم السيوسيو-سياسي الذي يغلي، ولم يصنع البصري خصوما وأعداء فقط، لكنه نسج كذلك علاقات مع شخصيات سيكون لها شأن لاحقا في الحياة السياسية المغربية.
كان الانقلابان العسكريان الفاشلان سنتي 1971 و1972 أشبه بهدية من السماء، فهم البصري أنها فرصته للصعود إلى قمة السلطة والمجد وأن عليه عدم تضييعها، وهكذا اشتغل بمكيافيلية ثاقبة كسكرتير دولة في وزارة الداخلية ابتداء من سنة 1974 تحت إدارة محمد بنهيمة، قبل أن يصبح وزيرا كامل الصلاحيات لأقوى الوزارات ابتداء من سنة 1979، ليبدأ إذن عهد البصري.
سمح حضوره الدائم في كل زمان ومكان وفي كل موضوع، للحسن الثاني أن يسود بإطلاق، دون أن يكون مضطرا للحكم مباشرة، فإدارة المشاكل كانت من مهام البصري، وهو في الحقيقة لم يكن يشتكي من ذلك، فقد كان أهلا لتلك المهام الصعبة التي كانت توكل إليه، يذهب إليها دون تردد ومهما كانت تكاليفها، ويمكننا في هذا الباب أن نذكر القمع الشرس ومن دون رحمة الذي ووجهت بها الانتفاضات الشعبية والإضرابات النقابية سنوات: 1979، 1981، 1984، 1990، والقائمة الطويلة من القتلى والمقابر الجماعية. جرى تحميل البصري مسؤولية كل ذلك بكل تأكيد، وقد كان يتولد الانطباع أنه كان يمضي دائما بقلب ميت.
وكانت حملة التطهير الشهيرة موسم 1996-1995 إحدى المحطات التي يتذكرها التاريخ المغربي الحديث، تحمل البصري مسؤولية إدارتها ووجهها ضد كبار المقاولين وملاك الشركات ورجال الأعمال الذين أدينوا دون احترام لفرضية براءتهم، لم يترك البصري أي فرصة لذلك… لقد كان خيارا وقرارا، هذا هو أسلوب “السي دْريس”، كان لديه نوع من الإبداع ولا يبالي في معظم الأحوال بالشكل أو طريقة الإخراج.
أصوله ومظهره البدوي لم يمنعاه من أن يصبح وجها مرجعيا داخل البلاط الملكي، وخلال هاته السنوات الطويلة التي قضاها على رأس وزارة الداخلية سيقوم البصري كما لم يسبق أن فعل أحد قبله بتوسيع صلاحيات الوزارة، بل وبالسطو على صلاحيات وزارات أخرى. فمن الإدارة الترابية أصبحت الداخلية تتحكم وتسيطر على كل ما يتحرك في البلاد، مع إعطاء الأولوية للحياة السياسية وعالم الأعمال، حيث أحدثت هندسة انتخابية تستطيع التحكم في خريطة المنتخبين والتلاعب بالتالي بالحقل الحزبي وصناديق الاقتراع، إنها سياسة “الديمقراطية الموجهة” التي انتهجها وأبدعها البصري، فالناخبون لم يكونوا ناضجين بما فيه الكفاية ليقرروا. كان البصري مثالا حقيقيا لما يجب أن تكون عليه الترجمة الحرفية لرغبات وأهواء الملك الحسن الثاني، فأصبح رجل ثقته الأول من دون منازع. ولعل أبرز دليل على التقدير الكبير لإدريس البصري من طرف الملك الراحل، هو بيان الديوان الملكي الشهير الذي صدر سنة 1994 عقب فشل المحاولة الأولى لتشكيل حكومة تناوب تقودها أحزاب الكتلة الديمقراطية، بعد أن اعترض قادتها على مشاركة البصري في الحكومة، حيث قال البيان إن النزول عند هذه الرغبة قد يمس مساسا خطيرا بحسن سير المؤسسات المقدسة. فاستمر البصري وقبلت المعارضة على مضض مشاركته في التجربة الجديدة لحكومة التناوب لاحقا بقيادة اليوسفي، لكن وإذا كان الحسن الثاني يعرف أي دور يوكله للبصري، فإن وجوده أصبح مرهقا في العهد الجديد، فجاءت إقالته بتاريخ 9 نونبر من سنة 1999 كإشارة رمزية على نهاية مرحلة، فرحل البصري وانتهت قدسيته وبقية القصة معروفة.
يوسف شميرو
مدير النشر