لطالما تساءلنا ماذا كان يتحدث أجدادنا في ظل وجود ثقافات وحضارات متعاقبة على المغرب. وما يزال السؤال يطرح حول نشأة الدارجة قبل وصول الإسلام ومدى تطورها. في هذا الحوار، يجيب اللساني محمد المدلاوي المنبهي عن هذه التساؤلات بشكل مفصل ودقيق، ويوضح علاقة الدارجة بالأمازيغية والعبرية والعربية والفرنسية وبلغات أخرى… وصولا إلى كيفية تحولها في العقود الأخيرة.
عندما يتمّ الحديث عن “الدارجة المغربية”، تتبادر إلى الذهن عدّةُ تساؤلات: من أين أتت تلك الدارجة المغربية؟ هل هي لهجة حديثة أم قديمة؟ وما هي أصول تشكُّلاتها الأولى؟ وكيف كان يتكلم المغاربة قبل مجيء العرب المسلمين إلى شمال إفريقيا؟
منذ أن ظهر على صفحات العصور التاريخية، كان المغرب، وشمال إفريقيا عامة، فضاءً متعدّد الاستعمالات اللغوية. وكانت مختلف أوجه الأمازيغية، عبْرَ تطوراتها البنيوية المتعاقبة، هي أقدم ما سجّله التاريخ كاستعمالاتٍ لغوية متأصلة في ذلك الفضاء، متعددةِ الوظائف في قطاعات حياتية مختلفة. غير أن المغرب (وشمال إفريقيا عامة بدرجات متفاوتة) قد شكّل -بحكم موقعه الجغرافي في العالم القديم وإلى اليوم- ملتقىً من ملتقيات “السوق اللغوية” لحضارة البحر المتوسط، وذلك بحكم كونه ملتقى قارتين عريقتين حضاريا (أي بين أوربا، عبرَ مضيق جبل طارق، وإفريقيا بتخومها الصحراوية والجنوب-صحراوية وبامتدادها القاري نحو الشرق عبر برزخ السويس)، كما شكّل ملتقى بحرين حضاريين عظيمين (المتوسط والمحيط الأطلسي).
كل هذا جعل اللغات ذات الأبعاد “العالمية” (حسب مفهوم “العالم” على توالي الحقب) تجد لها في المغرب وفضائه الشمال-إفريقي مكانا ومكانة من المكانات، على مستويات متعددة، وفي وظائف استعمالية مختلفة حسب الحقب. فقد احتفظ التاريخ مثلا باستعمال اللغة البونيقية (الوجه المتأخر للفينيقية) من خلال وثائق مكتوبة/منقوشة (نقش ضريح الملك الأمازيغي “ماسيـنيـسا” المزدوج اللغة والحرف: لغة بونيقية بحرف بونيقي، ولغة أمازيغية بحرف ليبَبوي Lybique، الذي يمثل الوجه القديم لحرف تيفيناغ الغربي). كما كان للغة الإغريقية بدورها حضور على مستوى الكتابة والتأليف في أوساط النخبة الأمازيغية، بدون أن يكون لليونان يوما حضور استيطاني في الرقعة المسماة اليوم بـ”المغرب”. ومن أبرز ذلك مؤلفات الملك الأمازيغي “يوبا الثاني”، الذي كان في نفس الوقت مؤرخا وكاتبا. وفي فترة الحكم الروماني، في شريط شمال حدود “الليمس” من شمال إفريقيا، ظهر كثير من الأدباء والمفكرين الأمازيغ (ورجال الدين في الفترة المتأخرة) ممن برزوا في التاريخ بكتاباتهم باللغة اللاتينية (أبوليوس، تورتيليان، القديس أغوسطين …). وعبْرَ توالي كل تلك الحقب، كانت الأمازيغية تشكل فُرشة الأرضية اللغوية (substrat linguistique)، بينما تشكل اللغات الوافدة المتعاقبة ما يعرف بالطبقة اللغوية الوافدة (adstrat linguistique)، فيحصل تداخل لغوي تتسرب بمقتضاه كثير من العناصر من اللغة الوافدة إلى مختلف الأوجه المتعاقبة للغة الأمازيغية على شكل “مقترضات” (Emprunts) في قطاعات مختلفة.
حاوره غسان الكشوري
تتمة الملف تجدونها في العدد 74 من مجلتكم «زمان»، دجنبر 2019