من الصعب اختصار الحديث واقتضاب محاوره أثناء مجالسة مفكر من طينة محمد نور الدين أفاية. هذا الرجل، غرف من بحور العلم والفلسفة والجماليات عقودا من الزمن، وما تزال إنتاجاته وعطاءاته غنية في الساحة الفكرية بالمغرب وخارجه. في هذا الحوار مع مجلة “زمان” يفتح نور الدين أفاية كتابه الشخصي، ويبوح بمساره وبداياته، ويتحدث عن دهشته الأولى في كهف السينما، وعن وقوعه في شرك السياسة. كما يجيب عن أسئلة إشكالية ما تزال عالقة، تحتاج لآلية نقدية في جعبة المفكر للإجابة عنها، حول السينما والتاريخ والديمقراطية والإعلام وقضايا أخرى.
في البداية، كمشتغل بالفلسفة وأستاذ لها، ما الذي يمكن أن تقدمه الفلسفة وتساهم به في مثل هاته الظروف الصحية، على غرار باقي المجالات والتخصصات؟
أنت تعرف أن الفيلسوف يستحق تسميته حينما يفكر في زمانه، أي حين يفكر في معمعة اللحظة التاريخية التي يعاصرها ويسائلها ويواكبها. لقد شكلت هذه الجائحة حدثا تاريخيا غير مسبوق، أي أنه من صنف الأحداث البنيوية التي تخلخل العلاقات، وتؤزم أنماط التفكير والتدبير الاعتيادية، وتنتج تداعيات كثيرا ما تكون سلبية بالنسبة للحريات، والاقتصاد، والشغل، والعلاقات الإنسانية، والممارسات الثقافية، وغيرها. فرض فيروس كورونا على البشرية مواجهة نقائصها ومحدوديتها، وهشاشة اختياراتها، وضعف بعض دولها، على الرغم مما تمتلكه من قوة، متخيلة أو واقعية. والسؤال الذي طرح منذ بداية الجائحة هو: كيف يمكن أن نفكر في اللايقين؟ ذلك لأن الفيروس خلخل كل الاعتقادات واليقينيات، وبقدر ما فرض على العقل البشري أن ينتبه إلى محدوديته، تثبت تطورات الأحوال أن الحل الوحيد هو العقل العلمي، على الرغم من حيوية الصراعات الدائرة حول مسلماته وعملياته، فهو الأفق الممكن لتجاوز النقائص والبحث عن الحلول.
غير أن غزارة ما كتب وحرر وقيل عن الجائحة يُبين، من جهة أخرى، كيف أن خطاب كورونا أنتج بديهياته المُضْجِرة منذ الأسابيع الأولى، بحيث أصبحنا عرضة لقصف يومي من أصناف متنوعة من التكرار والإسفاف التي سقطت فيها الخطابات والفيديوهات، وأشكال الازدحام، والضجيج الذي أحدثه عدد كبير ممن اعتبروا أن لهم رأي في الموضوع؛ واعتبارا لذلك، كان من الأليق التزام درجات ضرورية من التواضع، وتجنب التسرع في إصدار أحكام لا تصمد أمام الرهانات الضخمة التي فرضتها هذه الجائحة.
لنعد إلى مسارك ونشأتك. ما الذي تتذكره من شريط ذكرياتك في الطفولة، حول تعليمك أو دهشتك الأولى؟
سوف تزج بي في عالم من الصعب عليّ استحضاره بالشكل المطلوب أو المنتظر مني إبراز محطاته ومراحله. وبإيجاز شديد، أنا ابن عائلة متواضعة، ولدت سنة 1956 بحي السوينية داخل أسوار مدينة سلا، وفي سن الثالثة انتقلت عائلتي إلى منطقة “بطانة” في ضواحي سلا. وكانت حينها منطقة شبه قروية ومعروفة بطبيعتها الجميلة وبمناظرها الخلابة، لدرجة أن العائلات السلاوية كانت تقصدها في فصل الربيع للقيام بما كانوا يسمونه بـ«النزاهة»، ولا شك أنك تعرف أن المغني الحسين السلاوي له أغنية شهيرة تنشد «النزاهة مع الناس لكبار». تميزت طفولتي وارتبطت بعناصر الطبيعة. وقد عشنا لحظات سعادة لا تُنسى لأننا مارسنا من اللعب ما لا يمكنك تصوره، وتمتعنا بشساعة المكان وحرية الحركة، بل إنني أثناء التحضير لاجتياز امتحان البكلوريا، اتخذت لنفسي «مكتبا» بين أحضان تلك الطبيعة يطل على سهل ولجة سلا.
حاوره غسان الكشوري
تتمة الحوار تجدونها في العدد 84 من مجلتكم «زمان»