جسد الملوك الأقوياء في تاريخ المغرب مفهوم “دولة الواحد” باسطين نفوذهم التام على مختلف هيئات المجتمع وجهات البلاد، ومفوضين شؤون تدبير الحكم لبطانة لا تمثل بالضرورة أفضل ما تحتضنه النخبة. فكيف السبيل للانتقال نحو دولة القلة المنتقاة من بين أفضل عناصر النخبة؟
تمحورت الدولة في المغرب، على مدى قرون، حول مركزية الملك أو السلطان أو الأمير. سواء قامت على تحالف قبلي أو التفاف حول زاوية دينية، تنتهي الدولة الملكية عادة بأن تتجسد في شخص الحاكم. مهما كان تأثير الظروف الداخلية والأجنبية، يبقى لشخص الحاكم تأثيره الحاسم في تطور الدولة نحو القوة والتوسع أو نحو الضعف والتفكك. وهكذا برز سلاطين أقوياء في مختلف الدول التي تعاقبت على حكم المغرب، طبعوا بشخصيتهم تاريخ البلاد، إلى حد أن نهايتهم غالبا ما كان يعقبها تفكك وفوضى.
على مدى قرون كان نفس هذا النموذج سائدا في أوروبا، حيث تقوم الدول وتتوسع حول ملوك أقوياء يطبعون تاريخ شعوبهم. سوى أن سلسلة من الثورات الدينية والعلمية والاقتصادية أدت إلى اختراع نظام جديد في تلك القارة التي ظل المغاربة تاريخيا يحددون هويتهم في مقابلها. مع هذا الاختراع الجديد أصبح شخص الحاكم مطوقا بواجب المحاسبة، بل صار توليه الحكم في حد ذاته رهينا بتفويض متعاقد حوله يمنحه الشعب عن طريق ممثليه. صادف هذا التطور، الذي يشكل إحدى القطائع الأساسية بين الأزمنة الحديثة والقرون الوسطى، تفوق الشعوب التي أبدعته وحاولت تطبيقه بأشكال مختلفة وعبر مسارات طويلة من المد والجزر بين النظام القديم والنظام الجديد.
وهكذا أصبح التقدم بكل ما يتضمنه من رخاء وأمان وطول أمد حياة الأفراد مقترنا بالشعوب التي نجحت في العبور نحو النظام الجديد، حيث يسود “حكم القلة” المنتخبة، بدل “حكم الواحد” مهما امتلك من مواهب تؤهله ليكون حاكما قويا، ومهما بلغت بطانته من الإبداع والإخلاص. وصل هذا التفوق أوجه حين فرضت الشعوب الخاضعة لـ”حكم القلة” سطوتها المباشرة على أغلب الشعوب التي ما تزال تخضع لـ”حكم الواحد”، كما كان شأن “الإيالة الشريفة” التي انهارت تماما مطلع القرن الماضي وخضعت للاستعمار والتقسيم. بعد هذا الفشل الدرامي أصبحت دولة القلة المنتخبة من الأخيار الأفاضل، أفقا لا بد من إدراكه لضمان الاستمرار التاريخي للشعوب التي ما تزال تنظم نفسها في إطار “حكم الواحد” وبطانته غير المنتقاة وفق الطريقة العصرية.
إسماعيل بلاوعلي
تتمة المقال تجدونها في العدد 6 من مجلتكم «زمان»