لم يكن القرن الخامس عشر فأل خير على المغرب، في مختلف الميادين بما فيها العلوم، وعلى رأسها العلوم العقلية، فهو عصر تراجع المد الثقافي، ولحظة الخمول والانحطاط. فيه، سيتراجع الإنتاج العلمي، كما وكيفا، في الحساب والهندسة والفلك والطب والفلسفة.
لأوائل أحيانا، في المغرب منحنى دالة يرتفع إلى أن يبلغ قمته مع القرن الرابع عشر، ليميل منخفضا ابتداء من القرن الخامس عشر. وهذا الانخفاض ليس سمة خاصة بعلم دون آخر، بل يكاد يكون مشتركا بين العلوم جميعها. كما أنه ليس حكرا على بلاد المغرب فقط، بل يشمل واقع العلوم في مجمل الحضارة العربية الإسلامية.
كان علم الحساب أكثر فروع الرياضيات إثارة لاهتمام العلماء المغاربة في وقت مبكر. يعزى ذلك إلى طبيعته العملية في ظل الحاجة الماسة إليه في المعاملات التجارية والصيرفة والفرائض (قسمة التركات) وغيرها من شؤون الحياة اليومية، بل إن هذه الحاجة ستكون أحد أسباب تطوره. فعلم الفرائض سيكون له فضل في تطوير هذا الفرع من الرياضيات والسير به إلى أن ينفلت، قبل غيره من باقي فروع الرياضيات الأخرى، من هيمنة الفلسفة ليصبح علما مستقلا مع القرنين الثامن والتاسع الميلاديين. مع حلول القرنين الحادي عشر والثاني عشر الميلاديين، ستعرف الرياضيات في المغرب مرحلة تتميز بانطلاق الإنتاج والابتكار مع رياضيين كبار كالحصار وابن منعم وابن الياسمين. لتكون هذه المرحلة خير تمهيد لمرحلة الأوج، في القرنين الثالث عشر والرابع عشر، مع إمام الرياضيات ابن البنا المراكشي (1256-1321م) الذي يمثل هرم أعلام الرياضيات المغربية بكتابيه «تلخيص أعمال الحساب» و«رفع الحجاب عن وجوه أعمال الحساب». يشهد على ذلك ما قاله ابن خلدون في مقدمته: «ولابن البنا المراكشي فيه (علم الحساب) تلخيص ضابط لقوانين أعماله مفيد، ثم شرحه بكتاب سماه رفع الحجاب. وهو مستغلق على المبتدئ بما فيه من البراهين الوثيقة المباني، وهو كتاب جليل القدر أدركنا المشيخة تعظمه». وقد أرسى ابن البنا دعائم تقليد مدرسي مغربي، إذ ستتحول أعماله، خاصة كتابه الأول «تلخيص أعمال الحساب» إلى ما يشبه برنامجا مدرسيا يدرس في حلقات العلم إلى حدود القرن الثامن عشر. وستكتمل معالم هذا التقليد المدرسي بفضل أعمال الشراح، بدءا من القرن الرابع عشر، إذ ستتجاوز شروحهم لكتابي ابن البنا أكثر من خمسة عشر شرحا. وستساهم هذه الشروح في عرض أفكار هذا الرياضي المغربي وتصوراته وبسطها وتوضيحها، لتكون مرحلة الشراح هي مرحلة الحفاظ على المكتسبات الرياضية وتجديدها وإغنائها.
الصعود إلى القمة
ليس بعد الصعود إلى القمة إلا الانحدار، وهو ما ستعرفه الرياضيات المغربية بدءا من القرن الخامس عشر. يقول أحمد مصلح الباحث في تاريخ العلوم: «إن القرن 15 للميلاد يشكل بداية أفول النشاط الرياضي في المغرب، باعتباره مرحلة تراجع على المستويين المعرفي النظري والتقني العملي الرياضي، مقارنة بمغرب القرنين 13 و14 الميلاديين اللذين شكلا لحظة متميزة كما وكيفا من الإنتاجات الرياضية بهذه المنطقة، ويكفي أن نقوم بجرد ببليوغرافي لأعلام هذه المرحلة حتى نتبين الزخم والقوة التي تتمتع بها أعمالهم وتأثيرها على التعليم في القرون اللاحقة. ومن ثمة فالقرن 15 م شكل نقطة انعطاف في قراءة تاريخ النشاط الرياضي بهذه المنطقة، أو بالأحرى إنها لحظة تفصل مرحلة سابقة متميزة بقوة وبأصالة وبجدة أعمالها عن مرحلة الركود والنكوص التي عرفتها المنطقة لاحقا».
خالد الغالي
تتمة المقال تجدونها في العدد 19 من مجلتكم «زمان»