بلغ المغرب أقصى مراحل قوته مع دولة الموحدين، وتوسع شرقا وشمالا، لكنه لم يستطع أبدا التحكم في البحر واكتفى بدور الوسيط التجاري في ظل ما يعرف بنمط المرور، مما عجل بانهياره.
بلغ المغرب أقصى مراحل قوته مع الموحدين، ولمدة نصف قرن من عمر هذه الدولة. لكن، سرعان ما انهار هذا الصرح الشامخ، لتحل بعد ذلك التجزئة في المجال المغاربي. ولم يكن هذا الانهيار إلا نتيجة طبيعية للبنية السياسية والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية التي عرفها المغرب طيلة قرون؛ فالسياسة كانت في الأصل سياسة القبيلة التي تهيمن على المجال وتخضعه بل وتستنزفه، إلى أن تبدأ عصبيتها في التفكك، وتستبدل بأخرى. وحتى عندما انتقل المغرب إلى تجربة الدولة الشريفة، فإن هذه، ما كان لها أن تنجح لولا أنها كانت مدعومة بدورها بعصبية.
وبناء على هذه السياسة القبلية، تشكل “الجيش”، فكان في بدايات الدول المركزية قويا، ما دام يعتمد على عصبية ملتحمة، لكنها قوة سطحية، ما تلبث أن تنفرط عراها مع بداية تفكك العصبية ذاتها، ودخول عناصر جديدة لتركيبة الجيش، لم تسهم أصلا في بناء الكيان السياسي، وليس لها عليه الغيرة ذاتها، وهمها تحصيل ما أمكن من ثمرات الملك، ما دامت لا تستفيد من تلك الثمرات بنفس درجات استفادة الحكام.
لذلك، كان طبيعيا أن يتقهقر الجيش المغربي لاسيما أنه لم يتحكم في البحر إلا لماما ولفترات وجيزة. وبدا أن علاقة المغاربة بالبحر تكاد تكون علاقة نفور، وهو ما تجلى أكثر في الناحية الاقتصادية. ففي ظل غياب أسطول مغربي فعال، واكتفاء المغرب بدور الوسيط التجاري في ظل ما يعرف بنمط المرور، هيمن الأوربيون وخاصة الجمهوريات الإيطالية على التجارة في البحر الأبيض المتوسط، وزادت قوتهم البحرية بعد ذلك إثر خوضهم غمار الكشوفات الجغرافية، والتي أفضت، من ضمن ما أفضت إليه، إلى تمكنهم من الوصول مباشرة إلى منابع الذهب، وتحويل طرق تجارته نحو المحيط الأطلسي وأخرى نحو الشرق وبالتالي تجاوز المغربية، وبداية الاحتلال الإيبيري للسواحل المغربية.
وعلى امتداد فترات طويلة من تاريخ المغرب خلال العصر الوسيطـ، اكتفى المغرب بدور الوساطة التجارية، وهو ما لم يسمح بوصول الإنتاج إلى مستوى القوة والكثافة، إذ ظلت العملية الإنتاجية تقوم على وسائل إنتاج بسيطة وبدائية لم تنتج أكثر من “اقتصاد قلة”، كما لم تمكن من تشكل «طبقة برجوازية»، حيث ظل كبار التجار يستثمرون معظم أموالهم في مجالات غير منتجة، وازدادوا ضعفا نتيجة منافسة الدولة واحتكارها لهذا القطاع. وبمجرد أن تمكن الأوربيون من الوصول مباشرة إلى منابع الذهب، وتحويل طرق تجارته لصالحهم، انهار صرح الاقتصاد المغربي «كما ينهار قصر من ورق» بتعبير “بروديل” (BRAUDEL).
صحيح أن المغرب عانى، بفعل موقعه الجغرافي، ولمدة طويلة من تاريخه، من كوارث طبيعية خاصة الجفاف والأوبئة. غير أن أوربا الغربية عانت بدورها من الوضع نفسه إلا أنها استطاعت تجاوزه بفعل تطوير بنياتها الاقتصادية، وتحكمها في البحر…، وهو ما لم يفعله المغرب رغم أنه عرف تدفق هجرات أندلسية تملك من المهارات ما يكفي لخلق قفزة نوعية في البلاد. ويبدو أن تحكم القبلية في دواليب القرار، وهيمنة الدولة الناتجة عنها، قد أذاب ذلك الحضور، واكتفت تجلياته في مظاهر أخرى حضارية من لباس وأكل ومعمار…
محمد ياسر الهلالي
تتمة المقال تجدونها في العدد 19 من مجلتكم «زمان»