نقلت الصحف والمواقع الإليكترونية خبر إقدام مركز أجيال للتكوين والوقاية الاجتماعية بتطوان، التابع للرابطة المحمدية، على علاج فتاة مدمنة على المخدرات، ولأنها مدمنة كانت تَعرض جسدها للبيع حتى يتسنى لها اقتناء حاجتها مما دأبت أن تتعاطاه. خبر سار، ليس لأن مؤسسة اجتماعية بادرت بالاضطلاع بما يدخل في اختصاصها، بل لأن المؤسسة التي قامت بذلك ذات مرجعية دينية، ولم تقع مما قد يقع من صور نمطية وأحكام جاهزة، من قبيل التمييز ما بين الفضيلة والرذيلة، وبين الحلال والحرام، والمتشابه من الأحكام. خبر سار لأن المؤسسة الدينية، لم تكتف بالخطاب، وما قد يغلب عليه من وعظ وإرشاد، أو تعزيز وتحقير، بل إلى الفعل وفي معاقل ما هو خارج عن المتواضع، ولست أقول الرذيلة.
نحن نعلم أن الظروف الاجتماعية والاقتصادية والنفسية هي التي تدفع الأشخاص إلى اجتراح ما قد يجترحوه من جنوح وما قد يرتكبونه من آثام، ولذلك عوض الخطابات الجاهزة، تقتضي الموضوعية النظر إلى الظروف المحيطة بالظاهرة أو السلوك، و أيُّ خطابي أخلاقي، وأيُّ تعزير (بالراء) لا يأخذ بعين الاعتبار الظروف الموضوعية لن يكون له من أثر أو سيكون محدود الأثر. ولذلك فقوة الخطاب الديني لن تكون مستمدة من قراءته للنصوص، على أهميتها، وتأويلاته الممكنة، على أهمية ذلك، بل من خلال قراءة الواقع قراءة علمية، أي موضوعية، ومن خلال السعي لتغييره، وهو الأهم، وهو ما قامت به مؤسسة الرابطة المحمدية في حالة الفتاة المدمنة على المخدرات.
مرد الخبر السار كذلك، هو التفاعل الإيجابي لفعاليات المجتمع مع الحدث، بل تفاعل أسرة الفتاة، وكان يمكن أن تتشرنق أمام قيم بالية، فتفوت على نفسها علاج فلذة كبدها.
وهذا الذي نريده من علماء ديننا، أن يتركوا ولو إلى حين خطابهم، لينزلوا إلى الواقع، وألا يتأففوا من لظاه أو أن ينفروا مما قد يفوح منه من روائح عطنة. هذا الذي نريده منهم، كما يفعل القساوسة، إذ يخوضون الغمرات في الأدغال، ويقتحمون العوالم الصعبة، ويتصدون للحالات المستعصية ويتركون الأحكام الجاهزة من قبيل الخير والشر، أو الحلال والحرام، أو المؤمن والكافر، أو البار والفاجر. ومصدر الخبر السار، أن المؤسسة الدينية لم تكتف بجانب واحد من الانحراف، الانحراف الديني الذي قد يكون مطية للعنف والتطرف، بل تصدت للانحراف الاجتماعي، لأنه من العسير في واقع الأمر أن نُميز بينهما، فقد يفضي الانحراف الاجتماعي إلى انحراف ديني، كما أن الانحراف الديني قد يؤول إلى انحراف اجتماعي.
ومع ذلك، ينبغي أن نقول شيئا غير نبرة الاحتفاء والاحتفال، ذلك أن مصطلحاتنا ما تزال مسكونة بفهم قديم للسلوك، تنبني على أحكام جاهزة، بل على عنف رمزي. فليست المصطلحات أمرا بريئا… ما زلنا نستعمل مصطلح النساء العازبات مثلا، مع ما في الأمر من تناقض، ومع ما في الأمر من حُكم مسبق ضمني، ومن إسباغ هوية مزعجة على الضحايا… والحال أنهن في وضعية صعبة، هكذا ينبغي أن نراهن، وهكذا ينبغي أن نطلق عليهن. وقُل ذات الشيء على من فرضت ظروف خاصة أن يبعن جسدهن.
تجديد الخطاب الديني لن يتم من خلال فذلكات أو امتحالات أو تعسف في التأويل والتفسير، بل من خلال النزول إلى الواقع، ومنافسة من يسعون لرفع الضر عمن ساءت ظروفهم وضاقت بهم منافذ العيش. هو ذا ما سيضفي شرعية على الخطاب الديني، وما سيسبغ عليه قوة، وما سيضفي عليه التأثير.
والواقع جامع فيما قد يكون الخطاب مفرقا. لا ضير أن تلتقي أطراف مختلفة في مرجعياتها، مغايرة في طرقها، ملتقية في أهدافها. ولذلك عوض المشاحنات الخطابية، ينبغي أن يلتقي ذوو النوايا الحسنة، حول أوضاع قائمة من أجل التصدي لها. واقعنا وما ينوء تحته من أدواء، لا يمكن أن يُترك عبؤه لقبيل دون آخر، فبالأحرى أن يَعتبر طرف ما أنه مالك للحقيقة، ممسك بالخير لوحده، مؤتمن عليه، وسواه على ضلال يسعى في إشاعة الفحشاء والمنكر لا لشيء إلا أنه لا يتستر عن أدواء المجتمع ولا يفر من لظاه بالشطحات أو الزمزمات.
فلتكنْ حالة مركز أجيال للتكوين والوقاية حالة التقاء، ليس مما دأبت عليه أدبيات المبادرة الوطنية من التقائية وروافع وأنشطة مضرة للدخل، وما لا أدري، بل التقاء ذوي النوايا الحسنة لرفع الضرر عن شرائح مجتمعية بغض النظر عن مرجعيات أصحاب النوايا الفكرية أو السياسية والعقدية، وأنا زعيم أن الخطاب الديني سيتغير مثلما أصحابه، وكذا أصحاب الخطاب الحداثي، وسنكون جميعنا كاسبين، عوض صراع الديكة هذى الذي نخوضه بناء على الخطاب وحده ويفضي بنا إلى التنافر والتنابز.
“وفي ذلك فليتنافسِ المتنافسون.”
حسن أوريد
مستشار علمي بهيئة التحرير