لسنا بحاجة إلى التأكيد على أن منظومة التربية والتكوين المعتمدة في المغرب تعاني من أزمة عميقة، فذاك ما أدركه المغاربة منذ عقود. أما توالي “الإصلاحات” ونسخها لبعضها البعض، بالرغم من المجهودات المبذولة في تصورها وديباجتها، فإنه يكشف عن ثوابت مُجهِضة لكل إرادة تغيير وارتقاء بالمنظومة لتندرج في العصر من بابه الكبير. هكذا أخلفت بلادنا موعدها مع التاريخ خلال لحظات محاولة الإصلاح، آخرها “ميثاق التربية والتكوين”، المعدّ من قِبل اللجنة الملكية الخاصة للتربية والتكوين، التي ترأسها المستشار المرحوم عبد العزيز مزيان بلفقيه، و”البرنامج الاستعجالي”، الذي أشرف عليه الوزير السابق أحمد اخشيشن.
تأسس، بإرادة ملكية، وفقا لمقتضيات الدستور الجديد للمملكة “المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي” برئاسة المستشار الملكي عمر عزيمان. وبعد شهور من العمل المتواصل، ومشاورات شملت الأحزاب السياسية والأطراف المعنية بمنظومة التربية والتعليم في القطاعين العام والخاص، أنهى المجلس أشغاله وقدّم للملك محمد السادس خلاصاته وتوصياته في بحر شهر يونيو. ومن المرتقب أن تُطلق سيرورة ترجمة هذه التوصيات في شكل إصلاح جديد لمنظومة التربية والتكوين والبحث العلمي.
بالرغم من ملاحظاتنا النقدية على تشكلة المجلس الأعلى وأسلوبه في إدارة المشاورات، فإنه لا يمكن لنا إلا أن نتفاءل خيرا، وأن نأمل أن لا تضيع الجهود المبذولة حين ترجمتها في إجراءات عملية. ولكي نسهم بإيجابية في مجهود التعبئة الشاملة المطلوب للنهوض بمنظومة التربية والتكوين والبحث العلمي، ندلي هنا ببعض الملاحظات حول محدودية “الإصلاحات السابقة”.
تتعلق الأولى بالتصور الاستراتيجي، فإصلاح المنظومة جزء من المشروع المجتمعي المستقبلي، أهدافه العليا وغاياته الكبيرة لا يمكن فصلها عن منظومة القيم المؤطرة للمجتمع المتوخى. في إطار هذا البعد الاستراتيجي يندرج السؤال حول مكانة العلم والمعرفة في تصور منظومة التعليم والتربية المرتقبة. هل المركزية في هذه المنظومة تعود للمعرفة أم للهوية؟ ولكي لا يُساء فهمنا، نؤكد بأن المقصود بالسؤال ليس إقصاء طرف لحساب طرف آخر، بل توضيح الاختيار الاستراتيجي. هل ننطلق من ثوابت الهوية لتكييف المعرفة باستدعاء انتقائي للعلم، أم ننطلق من المعرفة كحصيلة للمعرفة الإنسانية ونعيد صياغة مقومات الهوية على ضوء المقاربات العلمية والآليات التكنولوجية؟ وكل اختيار له تبعاته على مستوى صياغة البرامج وتدبير الآليات التربوية والموارد البشرية. يثبت الواقع العنيد، مع الأسف، أن كل الإصلاحات السابقة، بالرغم من جديتها، لم تحسم في هذا الخيار الاستراتيجي. ويتجلى ذلك في تشكلة لجان الإصلاح، في تناقض غايات البرامج، وفي تخبط هيئات التعليم والتدريس، وفي ضياع المتعلمين والمتعلمات في آخر المطاف.
تهم الثانية لغة أو لغات التدريس. الإشكالية تعود للسنوات الأولى من الاستقلال. كانت المسألة، حينئذ، تتعلق بجدوائية الاحتفاظ باللغة الفرنسية، لغة المستعمر، كلغة للتدريس. أمّا اليوم، وبعد تجربة التعريب، المتنازع حولها، يتعلق الأمر بأربع لغات: العربية، الأمازيغية، الفرنسية، والإنجليزية. هنا أيضا المشكلة ليست في تعدد اللغات ولا في استعمال الدارجة كهمزة وصل، بل في الاختيار الاستراتيجي للغة الأساس وفي سيرورات التعلم اللغوي والإدراك المفاهيمي. لقد أنتجت مدرسة العقدين الأولين من الاستقلال، إطارات تتقن جيدا العربية والفرنسية، واليوم، بالرغم من تطور تقنيات التواصل، فإن مدرستنا لا تتفوق إلا في إنتاج “المرقعات” والفقر اللغوي والضياع اللساني.
ترتبط الثالثة بمقابلة جودة التعليم بتكلفته وبمبدأ المجانية، وما يتفرع عن ذلك؛ كمكانة التعليم الخاص أو تعليم البعثات الأجنبية. إذا لم تكن مجانية التعليم كما قال الراحل الحسن الثاني “من الفرائض الخمس”، فإن تساوي الفرص لا يمكن لأي إصلاح ذي بعد استراتيجي أن يتجاهله. إن الأسر المغربية، في الواقع العيني، تتحمل جزءا كبيراً من تكلفة تعليم أبنائها وبناتها. ليست المعضلة في مساهمة الأسر في ميزانية المدرسة، بل في قيام تعليم يشتغل فعلا كمرفق عمومي عصري وبمواصفات كونية، يتكامل ويتناغم مع تعليم خصوصي يندرج هو نفسه في المنظومة الاستراتيجية المعتمدة. هذا غيض من فيض سبق تداوله.
ما الذي أدّى، إذن، إلى فشل المحاولات الإصلاحية السابقة؟ أربعة أسباب كانت وراء ذلك. غياب إرادة وطنية لحسم التردد الاستراتيجي الثقافي، عدم منح الزمن الكافي لنقل التصور إلى واقع مؤسس، وهدر الإمكانيات المالية والبشرية عبر سيادة الارتجال والانتقائية، وأخيرا التردد في ترجمة تصور الإصلاح إلى قانون إطار مُلزِم. نتمنى أن لا يكون مصير الإصلاح المرتقب كسابقيه، خصوصا ونحن على أبواب استحقاقات انتخابية.