يتردد هذا السؤال في كل ناد، ومن مختلف الشرائح. ُينيخ الحاضر بثقله على المواطنين، بهمومه وأشجانه، ويخيف المستقبل بهواجسه. يتوزع السائلون بين معرفة ما لا يريدون، وجهلهم لما يريدون. لا يريدون «التشرميل» بمختلف أطيافه وأشكاله، وما أكثرها، ولكنهم لا يعرفون ما يريدون، لأنهم من غير منارات تهديهم. من دون طبقة سياسية يندرجون في ركابها وهم مطمئنون إليها، تحمل مشروعا سياسيا ولها رؤية مستقبلية، لأن ما يرون ُينفّرهم. يرون طبقة تتأرجح بين السطحية والإسفاف، ولا هم يجدون في مثقفيهم ما يشفي غليلهم، لأن هؤلاء غائرون، أغلبهم، في الجزئيات وتمارين السجال، والأحكام الجزافية المجانية، من غير رَوِيّة ولا اتخاذ مسافة مع الأشياء والأحداث، ولا لهم قدرة على التركيب، والنظرة الكلية، وكأن وضعنا شبيه بتلك الصورة الجميلة التي صورها الشاعر الجاهلي لقافلة جنّها الليل وأطبق عليها الظلام، فلم تجد سراة، أو هُداة، يرسمون لها السبيل، وأسلمت أمرها إلى من لا يحسنون قراءة النجوم:
لا يصلح الناس فوضى لا سَراة لهم
ولا سَراة إذا جُهّالهم سادوا
ما العمل وقد أطبق علينا الغبش؟ سُئلت غير ما مرة، في لقاءات عدة، هذا السؤال ولم يكن جوابي ليروق، ولعله لم يكن يُفهم، وأعرضه هنا في عجالة. ما نحتاجه في هذه الظرفية الدقيقة هو دولة قوية. والدولة ليست إدارة عصرية وحدها، ولا أطرا تقنية وحدها، ولا مؤسسات مالية متطورة. تلك أدوات، كمن يريد أن يختزل جسما في أعضائه. فالجسم هو كل الأعضاء، ولكنه قبل هذا وذاك، هو روح، وهو عقل.
الدولة عقد اجتماعي. ولست صاحب هذا الرأي بل هوبس الذي أدرك أنه للخروج من حالة التشرميل التي كانت تسود إنجلترا آنذاك، كان لا بد من وضع عقد اجتماعي بين مختلف عناصر المجتمع، لصالح كيان مجرد، وليكن غولا، هو الليفيتان، له روح هي السيادة الشعبية. علامات صحته الوئام المدني (وهوبس هو صاحب هذا المصطلح)، وأعراض مرضه الفوضى. مسؤوليته الأولى الأمن، ثم تحقيق الوئام المدني، وأخيرا الرفاه.
وللدولة غاية، مثلما رسم روسو، وهي الإرادة الجماعية.
وللدولة إطار أو هيكلة، تمتح من الكنسية، رغم أنها اصطدمت معها، لأنه حلت محلها. فهي نوع من الزهد والتجرد Sacerdoce، وهي تقوم على تراتبية، ولها مصطلحات كلها دينية..Office, Ministère وهي تحتكم لقواعد عامة غير شخصية هي التي تسمى في الأدبيات الغربية بحالة القانون Ètat de droit، وتترجم خطأ بدولة القانون، في مقابل ما كان يسمى بفعل الأمير Fait du prince.
ولفرنسا مثلا، وهي التي أخذنا عنها كثيرا من نظمها، مجلس للدولة، فيه من يبُتُّ حين تشتط الإدارة، وفيه من يسهر على احترام فلسفة الدولة، وأخلاقياتها، من خلال مستشاري المجلس الذين يُقدّمون المشورة.
أما ما يسمى في الأدبيات العربية بالدولة، فيعني، كما عند ابن خلدون، أسرة. وما أخذناه عن الحضارة الغربية من تقنيات، بما فيها تلك المتعلقة بالإدارة والتدبير، لا يجعلنا أصحاب إطار يسمى الدولة، فهل ما نسميه بالدولة يترجم حقيقة عقدا اجتماعيا؟ هل غاية الدولة عندنا الإرادة الجماعية؟ هل تأتم «الدولة» بحالة القانون، وتأنف من فعل الأمير؟ وهل يسوغ من منظور الدولة الاكتفاء بردود الأفعال. لا شك أن هذا الإطار الحديث، بقوانينه وقواعده وأطره، مكسب، ويمكن، متى ما كانت غايته الإرادة الجماعية ويعبر عن عقد اجتماعي، أن يكون أداة للدولة ووسيلة لبلوغها. ولعل استقراءنا لما يتواتر في لساننا من تعابير يعبر عن عدم ترسخ الدولة، «اللي ما عند سيدو، عندو للاه»، «الدنيا بالوجوه…» «الحبة والبارود من دار القايد»، «بيليكي»، «عرفت مع من أنت.». وهلم جرا، من تعابير تليق بعالم التشرميل وليس بالدولة، وما نجد مقابلا له في التراث العربي. فالحُكم ليس عقدا اجتماعيا، بل غنيمة، أو فيئا أفاء لله على من اختص من عباده.
وأرى، أن تعزيز بناء الدولة من شأنه أن ينعكس إيجابيا على الحقل السياسي، كما أن حمل فعاليات مدنية الدفاع عن حرمة الدولة وقواعدها، من شأنها أن يُسرّع وتيرة بلوغ كيان الدولة. والدولة القوية ليست الدولة البوليسية، ولا الدولة التي تتدخل في كل تفاصيل الحياة. كلا، فمسؤوليتها الأساسية أن تضطلع بدور استراتيجي. وأما الجانب الثاني الذي لم أفتأ أنادي به، فهو التربية، وليس التعليم وحده. وقِوام التربية، مثلما يقول أفلاطون، هو التحويل، أو نقل المتعلم من حالة لحالة، كبوتقة تصهر مادة لتحويلها. وأداة هذه العملية، كما يعلمنا كانط هو الانضباط. ولا يبدو، أننا خرجنا من دائرة الإصلاحات الجزئية، أو الإصلاح الدفاعي، عوض الإصلاح الجذري للمنظومة التربوية، بكاملها. ومن يربي المربين، كما في المقولة المأثورة لماركس؟ رأينا في الأسابيع المنصرمة، كيف أن حمى المعرفة، وفضاء الحوار، الجامعة، تحول إلى ساحة وغى، لأن ما نسميه بالمدرسة، لا تنقل التلاميذ من حالة لحالة، ولا هي تنشئهم على الانضباط، ولا هي تعلمهم احترام الآخر، ولا فضائل الحوار.
التشرميل من ورائنا، والتشرميل من حولنا، وليس لنا، والله إلا العقل. فلا إمام سواه، مثلما قال المعري.
حسن أوريد
مستشار علمي بهيئة التحرير