يعود العالم العربي إلى واجهة الأحداث في بؤرتين قويتن هما الجزائر والسودان، يمكن أن تكون لهما تداعيات على محيطيهما، شمال إفريقيا بالنسبة للجزائر، ومصر بالنسبة للسودان، مع شبح توتر عالمي في الخليج، وعودة الإرهاب كما حدث في تونس مؤخرا، ووفاة الرئيس المصري السابق محمد مرسي، أثناء محاكمته وهو المنتخب ديمقراطيا. ولكن العالم العربي يعود هذه المرة في حلة جديدة، وقضايا مغايرة ومقاربات مختلفة، مع طرح دور الجيش، ومفهوم الدولة مما يميزها عن العصابة أو أي شكل من أشكال الأوليغارشيات، وقيمة الحرية، والنأي عن الخطابات الميتافيزيقية والدعوة للتغيير السلمي… ومن العسير إن لم يكن من المستحيل أن تنتهي المجتمعات في العالم العربي إلى رؤى متفق بشأنها تشكل عقدا اجتماعيا، في غضون شهور أو سنوات أو حتى عقود لحل تراكمات قرون، منها ما هو مرتبط ببنية الثقافة العربية ذاتها، ومنها ما هو مرتبط بمخلفات الاستعمار… نحن في الزمن التاريخي وليس الزمن السياسي، ولن يسلم الزمن التاريخي من كبوات وتراجعات، ولكني أُقَدّر أنه مسلسل خطي لا منتدح عنه كي يعانق هذا العالم القيم الكونية، لأن عدم تأهيله يشكل تهديدا على العالم، وإحدى حراب التهديد الإرهاب، فضلا عن أخطار الهجرة…
لندع الأحداث جانبا، وأغلبها طازج لم يستوِ بعد، كي نغور في بعض ما يصدر من “شطحات” كتاب الرأي. ومن المستحسن، بل من المفيد أن ينظر المرء إلى ذاته من خلال الآخر، ويطلع على ما يكتبه، من دون أن يكون الآخر طبعا هو المحدد لهويته، كما ينزع خطاب الاستشراق مما أكب عليه إدوارد سعيد في عمله المرجعي.
من أهم ما قرأت هذه السنة عن العالم العربي كتاب لصحافي أمريكي مراسل لجريدة نيويورك تايمز في القاهرة، هو دافيد كيبرتاريك “في أيدي الجيش”، (بالإنجليزية) وصاحب الكتاب رافق ثورة الفل، كما سُميت، ويعرف سراديب السياسة المصرية، ويُجمل هذا العارف للسياسة بمصر، في شعور الخوف المستشري، (ويمكن أن ينسحب الأمر على بقية العالم العربي)، فالحداثيون يخشون الإسلاميين، والإسلاميون يخشون الجيش، والجيش يخشى الشارع، والشارع يخشى ارتفاع الأسعار… وشعور الخوف هذا هو الذي يؤدي إلى انتفاء الثقة، ولا يمكن لمجتمع أو عقد اجتماعي أن يقوم من دون الثقة. والشيء الثاني اللافت في هذا الكتاب، هو تقييمه لمن يسمون بالديمقراطيين، الذين لم يكونوا ديمقراطيين فعلا، أو كانت توجهاتهم الديمقراطية أو الحداثية اختزالية. قبِلوا التضحية بالإسلاميين، ولم يقدروا أن يؤكلوا يوم أكل الثور الأبيض. أما الكتاب الثاني فهو لناقد أدبي ياباني مُترجِم للأدب العربي إلى اليابانية نوبو أكي نوتوهارا، صدر له كتاب باللغة العربية لقي اهتماما بالغا «العرب، وجهة نظر يابانية». وهو يحمل تجربة في تعاطيه مع العالم العربي تنيف على الأربعين سنة. المشكل بالنسبة لهذا الناقد الياباني، هو انعدام الشعور بالمسؤولية في العالم العربي. هو يعتبر ما يجري في العالم العربي، ليس مسؤولية المثقفين من هذا العالم وحدهم، ولكن مسؤولية إنسانية، وانعدام المسؤولية في العالم العربي يتجلى في أن ما يدفعون الثمن الغالي من أجل الحرية والتحرر والكرامة، يجدون أنفسهم وحيدين، إما في السجن أو المنفى أو العزلة، دون أن ينبري المجتمع في الدفاع عنهم. و ما يسمى معارضة ليس كذلك، بل هي جزء من السلطة، وهي كذلك تمارس سلطة فوق المحاسبة. وأما الجانب الثاني المفيد هو أن القمع ليس بنية فوقية، وإنما نتاج لثقافة، فلا يمكن أن نتجنى على الحاكم لوحده. ويسرد قصة معبرة، أنقلها كما أوردها: «كنت أجلس في بيت العمدة في ريف مصر، وكنا ننظر للشارع. شاهدت يومها طفلا يلف خيطا على عنق عصفور صغير ويجّره وراءه، والعصفور يرفرف على التراب. وكان الناس يمرون بجانب الطفل دون أن يقولوا له شيئا، إذ كان المنظر طبيعيا بالنسبة لهم. طفل يتسلى بلعبة. لقد فهمت الأمر على النحو التالي: ضعيف تحت سيطرة قوي، والناس يقبلون سلوك المسيطر القوي ويرضخون له، أي أن المجتمع يسمح أن تسيطر قوة على أخرى أضعف منها». ثم يعقب: «وهكذا يألف الطفل القمع كجزء من وجوده».
ليست مشاكل العالم العربي سياسية فقط تنصرف إلى مشكل توزيع السلطة، ولا اقتصادية تهم التوزيع العادل للثروة فحسب، ولا اجتماعية تقصي شرائح من المجتمع بناء على النوع أو العرق أو العقيدة، ولكن ثقافية، تأنف من النقد، وتنظر إلى الواقع كبديهية أو مسلمة. ومن هنا نبدأ.
حسن أوريد
مستشار علمي بهيئة التحرير