هل يمكن أن نعتبر بيتا مجرد غرفه ومرافقه، منفصلة عن بعضها البعض، أم وحدة مترابطة ومتداخلة، تم تشييده ليكون مأوى لساكنيه، يجدون فيه ما ينشدون من دفء وراحة وخدمة، في كل مكوناته كلها؟ قد تتعرض بعض المرافق إلى إهمال وتحتاج من ثمة إلى إصلاحات، إما تزيينا، أو تداركا، ولكن دون أن تؤثر في البيت، بل المفترض أن تقويَّه و تزينَّه. ويبدو لي أن مقترحات إصلاحات مدونة الأسرة الأخيرة، سعت أن “تُرتّق“ بعض مرافق البيت، بل فصلها بعضها عن بعض، ولم تراع البيت في مجمله.
تتكون الأسرة، من زوجين، أب وأم وذرية، وتُشكل وحدة، كما في بيت، لكل مرفق دوره، ولا يمكن أن يُستغنى عن أي مرفق، ويبدو أن “اجتهادات” من أكبّوا على إصلاح، نظروا إلى مرفق، أو مرفقين، وأهملوا آخر، وفصلوا المرافق عن بعضها، ويوشك البيت لذلك أن يتهاوى .نعم، هناك إجحاف لبعض حقوق الأولاد في حالة الانفصال، والزوجة في حال وفاة الرجل، ولكن يظهر أن من أكبوا على “الاجتهاد“، انكبوا على رتق اختلالات، ولم يستبينوا أن “اجتهادهم“ ذلك، من شأنه أن يأتي على البيت.
ينبغي للاجتهاد أن يستحضر واقع الحال، وهو ما وقف عليه من اضطلعوا بالإصلاح، وينبغي أن يستحضر الإطار المرجعي، أي عدم مجافاة النصوص الشرعية، وهو ما سعوا إليه ولو بشيء من التمحل والاعتساف، ولكن كان ينبغي أن يستحضروا أشياء يبدو لي أنها غابت، وهو ما ينبغي أن يتوافر في بناء أسرة، من حسن نية، لأنها ليست مشروعا تجاريا، ولا جمعية مدنية، أو ما يعبر عنه القانون الروماني، بالأب الحاني على أسرته، أو ما نعبر عنه نحن بـ“النية“، ولكن أصحاب الاجتهاد، جعلوا الاستثناء قاعدة، لحالات النشار والخُلْف، وأغرقوا في الواقعية التي من شأنها أن تدس في الأسرة عدم الثقة، فيعزف الذكور عن الزواج، ويتضرر الإناث… ويتأذى المجتمع، وهو واقع الحال.
أنصح من أكبوا على الإصلاح، أن يقرؤوا كتاب “الأرخبيل الفرنسي“، وكيف تحول المجتمع الفرنسي، في غضون ربع قرن، ونيف من خلال التأثير على الأسرة، وانخفاض الزواج، (أكثر من ستين في المائة، من الأولاد، يولدون خارج إطار الأسرة)، أو ما يسميه صاحب الكتاب، جيروم فوركي وهو عالم اجتماع، بالانزياح الأنثروبولوجي، أي مجتمع منسلخ عن عمقه الثقافي والحضاري، كما شجرة من غير جذور. ولا جدال أن أصحاب الرأي منا، وقفوا على ما يعرفه الغرب من دعوة لقيم الأسرة، ورفض لحالات الزيغ، وفي جميع الحالات لا ينبغي أن يُحكم لفائدة النشاز، على حساب الشائع.
يبدو وكأننا نُبحر بغير رؤية، بقوارب صغيرة و هشة، وسط جزر حادة وصخور شاهقة، يمكن أن تنكسر عليها قواربنا، لأننا غالبا ما نبحر بأدوات غير أدواتنا، لقوارب غير قواربنا، في بحر غير بحرنا.
نبني بنيانا من غير لحمة، أو إسمنت، فنضع طوبا على طوب، ويسُرُّنا عُلو الجدار، ولكن ما مآل جدران لا تمسكها لحمة ويشدها إسمنت؟ ولحمة المجتمعات هي الأسرة، لأنها ضامنة الاستمرارية، حاملة لقيم الحب والرأفة والتضامن، وهي المدرسة، حاملة لقيم المواطنة، وأداة النجاح في الحياة العام، وصهر الأمة …فهل ننكث غزلنا بأيدينا، من خلال بناء من غير لحمة؟
والمؤسف حقا، أن الجميع يعي أهمية الأسرة والمدرسة، ولكن يُؤتى بما يناقض تماما هذا الوعي، وعوض الرَّتق، يتسع الخرْق.
الأدهى أننا نريد أن نصلح مرافق بيت، لم يعد له باب، مما يجعله حلا مستباحا.
حسن أوريد
مستشار علمي بهيئة التحرير