يتميز حاضرنا، اليوم، بمفارقة فريدة. ففي نفس الوقت الذي تعمم فيه الخطاب حول حقوق الإنسان وضرورة احترام حق الحياة والحريات الفردية وحرمة الجسد وحق الاختلاف. هناك أيضا، وفي نفس هذا الوقت نعميم لمظاهر العنف عبر العالم، كتعبيرات عن اختلالات النظام العالمي، وتسلط الرأسمال المالي، وتعسف الليبرالية المتوحشة، وسيادة مصالح الدول المهيمنة على عالم اليوم ورعايتها لأنظمة مستبدة، وشرعنتها لإرهاب دول كإسرائيل، وممارساتها المتناقضة اتجاه التنظيمات الإرهابية كـ”القاعدة” و”بوكو حرام” و”داعش”.
تعد هذه المفارقة إحدى السمات المميزة للعولمة والشمولية. عصرنا هذا، عصر حرية تنقل الرأسمال المالي والبضائع، وأنماط العيش والتفكير. مقابل هذه الحرية، هناك تضييق على حركية البشر، واجتهاد في تحصين الحدود ورفع الحواجز، بما فيها بناء أسوار الفصل والإقصاء. إلا أن انسياب البشر الجائع أو الخائف أو الباحث عن فضاءات لعيش كريم لا توقفه الحواجز، حتى ولو كانت جدارات أمنية مجهزة بآخر ما ابتكرته التكنولوجيا المتطورة.
في هذا المناخ المشحون بمشاهد العنف والعنف المضاد، تتناسل ردود الفعل الهوياتية، وتجتهد في شيطنة الآخر وتمجيد الذات الصغيرة المتقوقعة على نفسها. فسواء تعلق الأمر بالشرق أم بالغرب، بفضاءات المسيحية أم بفضاءات الإسلام، بمالي أم الولايات المتحدة، بسوريا أم فرنسا، بفلسطين أم لبنان، بتركيا أم اليمن، بالجزائر أم المغرب، فإن عمليات قتل أبرياء عزل عمليات مدانة، والمخططون والمنفذون لها مجرمون، ولا شيء يبرر فظاعة فعلهم. أما انتسابهم لدين ما أو لإله ما فهو مجرد هراء وتسويق إعلامي لمصالح خسيسة لا ينخدع لها إلا المغفلون أو المدمرون نفسيا.
الهوياتية توجه نفسي وإيديولوجي يتأسس على قاعدة حيف، وتشكل في المدى الطويل، ومس في العمق حقوق ومصالح جماعة بشرية مستقرة فوق تراب تمتد مساحته وتتقلص وفق الظرفيات.
يتراكب هذا الشعور بالحيف مع شعور بالخوف من المستقبل، ومن تكرار عمليات الاقتحام من لدن الآخر، ولو تقدم للمكلوم بوجه إنساني منفتح. لذلك، يجب شيطنة ومنع تعاطف الناس معه.
هكذا، تتشكل الهويات الصغيرة “القاتلة”. تقتل أولا كل تبصر وسط “أهلها”، وتقتل، ثانيا، كل حبة خردل إنسانية في تمثلها للآخر المشيطن، وتشرعن، ثالثا، لقتله والتمثيل بجثته.
بإمكاننا، كعرب وكمسلمين، كمغاربة، أمازيغيين وأفارقة، أن نتمثل أنفسنا كشعوب عانت سلفا من الاستعمار وجرائمه، وتعاني اليوم من هيمنة وقهر اللوبيات المالية والاقتصادية والعسكرية.
بإمكاننا أن نعدد مظاهر الحيف والظلم والجور، التي تمسنا من جراء سعيها الدائم لرعاية مصالحها وانحيازها لحلفائها الجيو-سياسيين. إلا أننا نفضل أن لا نتموقع في صراع “الهويات القاتلة”، وأن لا ننخرط في حملة الأحكام الكليانية المصنفة للبشر، وفق المنطق الثنائي، الذي يقابل الأخيار بالأشرار. المنطق الذي يشيطن الغرب، ويؤجج الأحقاد ضده كلما انزلقت فئة منه، وقد تكون حاكمة، نحو فعل إجرامي داخل فضاءانها. المنطق الذي يدفعنا، عندما تبادر فئة منا إلى ارتكاب جرائم إرهابية داخل “فضاءات الغرب”، إلى السكوت عليها، أو الابتهاج الباطني بما حصل، أو حتى مهاجمة من منا ساند الضحايا وندد بالجرائم التي ترتكب باسم هويتنا وديننا.
كما نرفض الحكم الشمولي القائل بأن “الإسلام دين العنف”، وبأن كل مسلم “إرهابي في حالة انتظار”. نرفض الحكم الكلياني الذي يعتبر “الغرب” عدوا استراتيجيا لنا، شيطان متآمر، ولا هدف له إلا تدميرنا وإبادة حضارتنا.
ليس هناك لا إسلام كلياني ولا غرب كلياني. ففي كل الأديان شحنة من عنف، وشحنات من وعظ، ومئات من القراءات والتأويلات. ووسط كل الشعوب فئات مفكرة وحكيمة إلى جانب فئات متحجرة ومتشددة ومجرمة.
فلكل شعب “داعشه”، فإن اختلفت الشعوب، فإن “الدواعش” واحدة. فلا فائدة في نظرنا مقابلة “داعش العربية” بـ”داعش الإسرائيلية أو الأمريكية أو الفرنسية”، فكلها مظاهر إجرامية لاختلالات عالم اليوم. فالفائدة، كل الفائدة، في تسليط الأضواء، ونحن على أبواب سنة جديدة، على مظاهر الإشراق داخل الإنسانية، مظاهر التضامن والاحتضان والتفاهم السامي بين الشعوب والحضارات.
صحيح أن هذه التوجهات ما تزال تسبح ضد “الهويات القاتلة”، إلا أنها بصدد تأسيس لهويات جديدة، “الهويات الحاتمية المضيافة”، تلك التي تحتضن الآخر بالرغم من اختلاف دينه ولونه وأصله. تلك التي تراهن على الأبعاد الإنسانية داخله، تلك التي تشجع الإبداع والتفتح والاختلاط المنتج. “الهويات المضيافة” تنبذ فلسفة الموت وقبر الإنسان، إنها تخلد إنسانية الإنسان، وتحتفل كل يوم بالحياة.
المصطفى بوعزيز
المستشار العام