نظمت أربع مركزيات نقابية، يوم العاشر من شهر نونبر الفارط، مسيرة وطنية يوم الأحد 29 من نفس الشهر بمدينة الدار البيضاء، يعقبها تنظيم تجمع عمالي عام يوم 8 دجنبر 2015 في ساحة La salle بشارع فرحات حشاد، وكذا خوض إضراب عام وطني في قطاع الوظيفة العمومية والجماعات المحلية يوم 10 دجنبر الموالي، ناهيك عن إضراب عام في القطاعين العام والخاص والمؤسسات العمومية وشبه العمومية، واعتصام عمالي بالرباط، يحدد تاريخهما لاحقا. ورأت نقابات الاتحاد المغربي للشغل والاتحاد العام للشغالين بالمغرب والكونفدرالية للديمقراطية للشغل والفدرالية للديمقراطية للشغل أن الحكومة لم تلتقط الإشارات التي وجهتها لها، سواء عبر الإضراب العام ليوم 29 أكتوبر 2014، أو مقاطعة احتفالات فاتح ماي 2015. وهو ما يعني، حسب تصريحها المشترك، تجاهلا للمطالب العمالية، وانعداما للجدية في معالجتها، وتملصا من تنفيذ ما تبقى من اتفاق 26 أبريل 2011.
نعتقد أن في هذا التنسيق النقابي، وفي اختيار أزمنة وأمكنة تنفيذ الخطوات التصعيدية للنقابات الأربع، ما يستحق التشريح في مختبر التاريخ. فاختيار يوم 8 دجنبر لتنظيم تجمع عمالي، لا نراه صدفة، خاصة إذا علمنا أن المكان المقترح لهذه التظاهرة العمالية هو شارع فرحات حشاد. فقبل 63 سنة كانت قيادة الاتحاد العام للنقابات بالمغرب قد قررت تنظيم إضراب عام لمدة 24 ساعة ووجهت نداء “إلى جميع العمال والعاملات ومختلف طبقات الشعب المغربي كي يتخذوا يوم الاثنين 8 دجنبر 1952 يوم حداد وطني، وينادي بإضراب عام لمدة 24 ساعة في هذا اليوم احتجاجا على قتل الأخ فرحات حشاد”. بينما يوم 10 دجنبر لا يخلو من رمزية مرتبطة بتخليد اليوم العالمي لحقوق الإنسان. لكن قبل هذا وذاك، لدجنبر مع الإضراب العام قصة خاصة موشومة في ذاكرة المغاربة، وتحديدا سكان مدينة فاس، جرت أطوراها قبل 25 سنة، وتحديدا يوم 14 دجنبر 1990. فما أوجه الشبه بين محطتين نضاليتين باعد بينهما الزمان لمدة ربع قرن؟
اتسمت الدعوة النقابية للإضراب العام يوم 14 دجنبر 1990، والذي نشأت عنه أعمال عنف بمدينة فاس، بكونها كانت حصيلة تنسيق نقابي غير مسبوق بين الكونفدرالية الديمقراطية للشغل والاتحاد العام للشغالين بالمغرب، وبكونها جاءت أيضا بعد دق ناقوس الخطر، في شكل ملتمس رقابة في البرلمان، تقدمت به أحزاب المعارضة، يوم 14 ماي 1990، لإسقاط الحكومة. هذه المرة أيضا هناك تنسيق نقابي غير مسبوق، فعوض تكاثف جهود نقابتين قويتين كما حصل سنة 1990، هاهي أربع مركزيات نقابية الأكثر تمثيلية، الاتحاد المغربي للشغل والاتحاد العام للشغالين بالمغرب والكونفدرالية للديمقراطية للشغل والفدرالية للديمقراطية للشغل، تسطر ما أسمته “برنامج نضالي/ عملي متواصل وبأهداف اجتماعية عمالية واضحة، وبمنطلقات وتصور يخدم الطبقة العاملة المغربية ومصلحة الوطن. برنامج نضالي متواصل ممتد في الزمن”. لكن ما المتغير الذي قد يسائل هذا الطموح؟
في الواقع هناك متغيرات عدة تستدعي إضاءة تاريخية لفهم العطب الذي يعتور البنية، ويجهض طموحات الظرفية، مهما كانت المطالب عادلة ومشروعة. شكلت أحداث 8 دجنبر 1952 لحظة نوعية في تاريخ الحركة الوطنية المغربية بشكل عام، والنضال العمالي بشكل خاص. فمسار المظاهرة من مقبرة بنمسيك إلى بورصة الشغل، عرف انعطافة في قنطرة طريق مديونة، أشرت على رسالة تضامن مع السلطان محمد بن يوسف، وعلى تحول في رد العنف بالعنف، وعلى زخم عمالي، شكل القاعدة التي اطمأنت لها الأطر النقابية المغربية، للتفكير في خلق إطار نقابي مغربي مستقل، والخروج من الوصاية النقابية الفرنسية.
توج هذا المسار بتأسيس الاتحاد المغربي للشغل، كأول نقابة مغربية، في 30 مارس 1955. وتحول الاتحاد في ظرف وجيز إلى قوة نقابية كاسحة، إذ وصل عدد منخرطيه إلى 650 ألف عامل سنة 1959، مما أعطى الانطباع عن ظهور قوة نقابية مغربية صاعدة مع بداية الاستقلال، سيكون لها وزنها في المستقبل. لم تتأخر نُذر تلاشي هذا التفاؤل، ففي سنة 1960 جاء تأسيس الاتحاد العام للشغالين بالمغرب، كجواب نقابي على صراع سياسي، انتهى بانشقاق الإتحاد الوطني للقوات الشعبية عن حزب الاستقلال. تكرر نفس السيناريو بعد 18 سنة، بتأسيس الكونفدرالية الديمقراطية للشغل، يوم 26 نونبر 1978، كإحدى تبعات خروج الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية من رحم الإتحاد الوطني للقوات الشعبية. فتماهى التشرذم النقابي مع التفتت الحزبي، نتيجة ثقافة الإلحاقية الحزبية، والحصيلة بلقنة حزبية وفسيفساء نقابية. كان إضراب 14 دجنبر 1990 مسبوقا بملتمس رقابة، ومسنودا سياسيا بأقوى كتلة سياسية، ومحتضنا جماهيريا وعماليا من طرف قواعد نقابية وفئات شعبية، في زمن كان للعمل السياسي بريقه وللفعل النقابي جاذبيته. اليوم تخبرنا أرقام المندوبية السامية للتخطيط، أن ما استطاعت النقابات المغربية، التي لا يختلف عددها كثيرا عن عدد الأحزاب، استقطابه، لم يتجاوز 3% من المنخرطين في صفوف الشغيلة المغربية، وهو عنصر مفسر لصدى الدعوة إلى الإضراب العام في السنة الفارطة. كما أنه عامل محفز على أخذ العبر وترتيب البيت الداخلي في اتجاه الوحدة، وإعلان الإضراب على التبعية الحزبية، والتفريخ النقابي، قبل إعلان الإضراب العام، حتى لا يكون هذا الأخير مجرد رجع صدى لصوت نقابي قُدر له أن يكون خافتا. فبفضل الوحدة النقابية، والمسافة المعقولة مع الأحزاب السياسية، تمكن أبناء فرحات حشاد، المحتفى به رمزيا، من التموقع القوي في المشهد التونسي، والتتويج بجائزة نوبل للسلام.
الطيب بياض
مستشار علمي بهيئة التحرير