حظيت الأحداث السياسية المرتبطة بحكومة التناوب والتأويل الرئاسي للدستور بحيز هام في خواطر عبد الله العروي المغطية للسنوات الأول لحكم محمد السادس.
يشعر القارئ للجزء الرابع من يوميات عبد لله العروي، بخيبة أمل الكاتب، لضياع فرصة الانعتاق من «القفص الذي سجننا فيه الحسن الثاني»، واستمرار التأويل الرئاسي للدستور. يخيل للقارئ أن وصف «المغرب المستحب أو مغرب الأماني»، الذي اختاره العروي عنوانا لخواطره الصباحية، لا يطابق مغرب الفترة ما بين 1999-2007 التي يغطيها هذا الجزء الرابع من يومياته. فمغرب «الأماني» ما يزال حلما لم يتحقق بعد، رغم فرصة انتقالين كبيرين ميزا هذه المرحلة. انتقال الملك ما بين عهدي الحسن الثاني ومحمد السادس، والانتقال السياسي من خلال التناوب التوافقي، الذي يتحدث العروي عن نهايته سنة 2007 بمناسبة انتخابات تلك السنة، وليس سنة 2002.
لا يقدم العروي، المؤرخ والمفكر، في هذه الخواطر تحليلا تاريخيا أو نقدا إيديولوجيا، فخواطر الصباح هي انطباعاته كما دونها في يومياته، تعليقا وتفاعلا مع الأحداث لحظة وقوعها. بدأ تدوين الخواطر منذ سنة 1949 وهو تلميذ في ثانوية مراكش، كما أوضح في مقدمة الجزء الأول من «خواطر الصباح»، والذي غطى الفترة ما بين 1967 و1973، ليليه جزء ثان غطى سنوات 1974 إلى 1981، ثم جزء ثالث امتد ما بين 1982 و1999.
في نفس الوقت يصعب فصل العروي، المؤرخ والمفكر، عن العروي كاتب اليوميات المتفاعل مع الأحداث الآنية. كما أن الموضوع الأساسي، في الجزء الرابع من خواطر الصباح يحيل القارئ على ما ورد في آخر نص فكري صدر للعروي سنة 2009 «من ديوان السياسة»، وما تضمنه من تأصيل لأسباب «الأمية» السائدة، واقتراحاته لـ«الفطام» عنها، في مجالات الإصلاح السياسي والمؤسساتي، والتي تضمنتها الفصول الأخيرة من هذا الديوان السياسي. حتى أنه يجوز استعمال عبارة «المغرب المستحب أو مغرب الأماني»، عنوانا جامعا لتلك الفصول.
التحديث بالسياسة
هناك توازٍ وترابط بين القول الفكري في السياسة، عند العروي، وانطباعاته اليومية المواكبة لمجريات السياسة المغربية في هذه المرحلة الدقيقة، من التاريخ الراهن لبلادنا. تماما كما أن هناك ترابطا، عنده، بين النقد الإيديولوجي والعمل السياسي، الطامح إلى التحديث.
عندما يشرح العروي ظروف تأليف «الإيديولوجيا العربية المعاصرة» أول عمل صدر له سنة 1967، يوضح أن الفكرة بدأت حين قام بترجمة مؤلف «شفاء السائل» المنسوب لابن خلدون سنة 1961. «كنت أثناء اشتغالي بـ«شفاء السائل» أفكر في إخفاق رجل آخر، ذي مؤهلات كبرى وهو المهدي بنبركة. كان ألمع شخصية أنتجتها الحركة الاستقلالية المغربية، حيوية وإخلاصا ونفاذ فكر، ومع ذلك أخفق في جميع محاولاته لإعادة تنظيم الحزب وإعطاء مضمون للاستقلال السياسي وتغيير مجرى انزلاق المغرب في طريق التبعية والركود. (…) إن للمجتمعات قوانين، لا تؤثر فيها النيات الحسنة ولا التطلعات المحببة لقلوب البشر – فكيف تستعمل معرفة القوانين المجتمعية في العمل السياسي اليومي؟»، كما كتب العروي في «العرب والفكر التاريخي».
احتل العمل السياسي مكانة أساسية في اهتمامات عبد لله العروي. بل هو، عنده، وسيلة أساسية من وسائل الإصلاح الطامح لتدارك التأخر التاريخي، شريطة أن يؤطره وعي مطابق للواقع، ولا يقع ضحية الإيديولوجيا التي تجعل السياسي يتعامل مع الواقع الموضوعي من منطلق المأمول غير المتحقق بعد في الواقع، كما شرح ذلك الكاتب في «الإيديولوجيا العربية المعاصرة»، و«العرب والفكر التاريخي».
لذلك حمل العروي «المثقف الثوري» مسؤولية تحضير البرنامج السياسي والثقافي العصري، والتصدي لـ«حرب إيديولوجية لا هوادة فيها». تهدف إلى توضيح عقم البرنامج السلفي لتدارك التأخر التاريخي. وقصور البرامج الانتقائية التي تنتقي مما تحقق في الغرب المتقدم حلولا تقنية لا تستوعب عمق الليبرالية العصرية، أو تعتمد «المذهب» الماركسي، وليس «المنهج» الماركسي، فتحمل الطبقة العاملة مسؤولية الثورة دون الانتباه لحقيقة وضعها التاريخي، وما إذا كانت تحررت أم لا من قيود الماضي، لتستوعب العقلانية العصرية وتفرضها على المجتمع.
كانت تلك معارك العروي الفكرية منذ الستينات والسبعينات، ظلت توازيها مواكبة مستمرة للأحداث السياسية الوطنية والدولية، كما يظهر في خواطر الصباح بأجزائها الأربعة. يبدو أن السياسة باتت تحتل الجزء الأكبر من يوميات الكاتب، في جزئها الرابع، أكثر من القضايا الفكرية والأدبية والأحداث الشخصية التي كانت حاضرة أكثر في الأجزاء الثلاثة الأولى، وفي «السيرة الذهنية» للكاتب الموسومة بـ«أوراق»، والتي استعمل فيها أيضا بعض يومياته.
من بين المواضيع السياسية التي اهتم بها العروي في يومياته ما بين 1999 و2007 يظهر اهتمام خاص بقضية جوهرية. فشل التناوب وانحلال الاتحاد الاشتراكي المترافق توازيا مع انتصار التأويل الرئاسي للدستور على التأويل الديمقراطي. كما أوضح في «ديوان السياسة»، لم يكن العروي يرى ضرورة لإصلاح دستور 1996، بقدر ما يعتقد أن التقدم ممكن بتغليب التأويل الديمقراطي على التأويل السلفي للدستور. وقد ظهر أن قضية التأويل الديمقراطي ما تزال مطروحة حتى بعد تغيير الدستور سنة 2011.
يبدو أن العروي كان يعتقد بإمكانية تحقيق هذا التأويل الديمقراطي إلى حدود 10 شتنبر 2001، على الأقل، حين كتب في يومياته «أبدل الشك باليقين في استجواب مع مراسل الفيغارو (…) يقول في المقدمة إن المغاربة (كما لو عرف دواخلهم أو استنطقهم واحدا واحدا) لا يريدون ملكية على النمط الاسباني، بل يتطلعون إلى ملكية تنفيذية (…). هذا تأويل رئاسي للدستور الحالي مع أن التأويل البرلماني وارد كما أوضحت ذلك في عدة مناسبات. يحتكر الملك كل السلط التمثيلية ويشفعها بأخرى تنفيذية. البرلمان مقيد بالإمامة والحكومة مطوقة بالملكية. سيقول الكثيرون إن كل شيء كان مدبرا منذ البداية. ذلك يقرأ في كتب الحيل. قد يصدق التخمين وقد لا يصدق. المحقق أننا لن نغادر القفص الذي شيده الحسن الثاني وسجننا فيه، إذا استمرت الأمور في هذا الاتجاه، ولا داعي إلى تغيير الوجهة إذا فضل الجميع تجنب المواجهة».
قفص الحسن الثاني
كان العروي يعتقد منذ 1999 أن عمر حكومة التناوب محدود وأن هناك سعيا لإسقاطها قبل نهاية ولايتها. «الجناح المحافظ، الممثل في الحكومة والإدارة والقصر، كان يستعد لتمثيل مسرحية 1960 (إسقاط حكومة عبد الله إبراهيم). وذلك بإقالة حكومة اليوسفي بدعوى أنها لم تف بوعودها (…) ثم توفي الحسن الثاني، ربما قبل أن تطبق الخطة. الهدف الآن جر الملك الجديد إلى أن يسير في هذا الاتجاه، أن يصبح صورة طبق الأصل للحسن الثاني».
يرى في بعض الأحداث عناصر مؤامرة كان مدبروها يسعون بشكل حثيث لإضعاف الاتحاد الاشتراكي، قائد التناوب. في خاطرة 2 دجنبر، مثلا، كتب «لماذا الآن؟ في وقت تهاجم فيه صحف أخرى الحكومة على عجزها؟ (…) ليس من المصادفة أن يسحب الخطيب (زعيم حزب العدالة والتنمية) مساندته للحكومة. لا شك عندي في أن نشر الرسالة (رسالة الفقيه البصري) داخل في هذه الخطة. يبقى دور فرنسا. مصلحة بعض الدوائر الفرنسية علة أقل تقدير هو باستمرار إضعاف الجانبين».
في المقابل، يؤاخذ العروي على الاتحاد الاشتراكي، عدم تصديه للإصلاحات السياسية أثناء حكومة التناوب. «ما لم يتحقق إلى الآن من عمل الحكومة الحالية هو سياسي بامتياز: تنظيم الأحزاب، قانون الشغل، مدونة الأسرة، الإعلام، الثقافة، وأن هذه المشكلات السياسية ستظل مطروحة باستمرار». (خاطرة 17 يونيو 2002).
انحلال الاتحاد
في 2007 انتهى التناوب، بالنسبة للعروي، بـ«انحلال الاتحاد (الاشتراكي) الذي كان الحزب الإصلاحي بامتياز (…) خطوط التمايز، الاجتماعية والثقافية، لا زالت كما كانت. إلا أنها اعتمدت مرجعية جديدة. انتهى عهد الإيديولوجيا السياسية وجاء عهد المنظور الديني الذي يوافق النظام المخزني وحزب الاستقلال والإسلاميين ولا يوافق بحال الاتحاد الاشتراكي». (خاطرة 14 شتنبر 2007).
في هذه الخاطرة بالتحديد تظهر حدود اليوميات كشكل في التعبير مقارنة مع التحليل العلمي. ففي معرض شرحه لأسباب انهيار الاتحاد يذكر العروي بمكونات المشهد السياسي. «قطب محافظ، مرجعيته إسلامية (سنية مالكية…)، لا يجاري أي نوع من التطرف، يريد الإصلاح ولكن في حدود واضحة، أخص الاقتصاد أو الحياة الاجتماعية أو التعليم. قطب موال للحكم، لا يبادر بالإصلاح في أي مجال، ويقبله متى أشاد به الحكم. مع كل هذا فهو أكثر تفتحا من القطب السابق (…) قطب إصلاحي، لا أقول ثوري، إذ فكرة الثورة شيعت ودفنت. هؤلاء يمثلون اليوم أقلية (…)».
ثم يذكر أن «التوافق كان مع القطب الأول، وضمنه الإسلاميون بقيادة الخطيب». ويضيف «يبدو أن أحد أسباب الفشل في الانتخابات هو المحاولة، في آخر لحظة دون توطئة، إلى إبدال حليف بآخر. مسألة في غاية الأهمية لا أحد يتعرض لها (…) الجرأة لم تكن في قول لا سنة 2002 بل في الاستعداد إلى قلب التحالفات قبل ذلك التاريخ. لم يحدث ذلك آنذاك ولا أظن أنه سيحدث يوما. مع من التحالف؟ ومن يضمن وفاء الحليف؟ القديم جربناه أما الجديد، فمخاطرة..»، يفتح الكاتب هنا أفقا للنقاش دون توضيح وتفصيل، خلافا لما يتيحه التحليل التاريخي أو النقد الإيديولوجي في المؤلفات الفكرية.
إسماعيل بلاوعلي