فضلت سعيدة المنهبي، المناضلة في حركة “إلى الأمام” السرية، أن تقدم حياتها ثمنا في سنوات الرصاص، على أن تبدل قناعاتها أو أن تخون عهد “الرفاق”.
حين علمت خديجة المنبهي باعتقال الشابة سيليا الزياني، فنانة “حراك الريف”، بدأت تبكي بحرقة. «إنها تذكرني بشقيقتي سعيدة بشكل فظيع»، تقول خديجة وعيناها قد اغرورقتا بالدموع. مَن مِن الرفاق ومِن “زوار الفجر” لا يتذكر سعيدة التي غادرت وهي ما تزال تبحث عن “دليل العنفوان”؟
لم تشفع لها أنوثتها الفتية لدى الجلاد، الذي تفنن في تعذيبها، وكلما زاد عذابها زاد تلذذه، ولم يتوقف إلا أن حلقت روحها في السماء، بعد أسابيع مريرة من إضراب “الأمعاء الفارغة”. غير أن سعيدة عرفت كيف تواجه آلام “سنوات الرصاص” تلك، أو “سنوات الرعب”، كما تفضل شقيقتها خديجة تسميتها، عبر كتابة الشعر وعبر ما ضمنته من تعبيرات في رسائل إلى عائلتها من داخل زنزانتها الباردة، حتى تشعر بدفء الأب والأم والإخوة (أربع بنات، وذكَران إثنان).
اعتنقت سعيدة، في وقت مبكر،عقيدة النضال السياسي اليساري، الذي يتغذى أساسا من الأفكار الشيوعية، وبتعبير أكثر دقة، من أفكار الماركسية اللينينية. كما آمنت سعيدة الحالمة بالحرية، بـ”طوباويات” ما أنتجه الاستقلال من أحلام، في عالم أصبح ثنائي القطبية. وأيضا، في مغرب “قاتم واستبدادي وعنيف”.
“طُلاب الحرية”
رأت سعيدة النور وسط عائلة يجري مفهوم الحرية في حمضها النووي. فقد كانت والدتها، فخيتة الهلالي ونجلة أحد زعماء قبائل درقاوة، امرأة متميزة وذات فكر متفتح ومنفتح. بينما كان والدها، سليل إحدى العائلات الارستقراطية التقليدية الكبرى، مفتشا عاما بمستشفى. «كان يجمع بين الأصالة والمعاصرة، قبل أن يميل أكثر، في الأخير، إلى الخيار الثاني»، تقول خديجة. في هذا الوسط، ازدان فراش العائلة، في أحد أيام شتنبر 1952، بسعيدة التي كانت الثالثة بين أخواتها. «غيَّر وجود أربع بنات في البيت من طريقة تفكير والدي. أو لنقل إن أفكاره كبرت معنا. لم يجبرنا أبدا، لا هو ولا الوالدة، على القيام بأي شيء. علمانا على أن نكون حرات. كان الأمر استثنائيا مقارنة بالعائلات الأخرى»، وفق تعبير خديجة. ذات يوم، حدث أن دخل عبد الرحمان، الشقيق البكر، البيت واصطحب معه “السياسة”. كان ذلك في 1965، أي العام الذي عرف احتجاجات تلاميذية وطلابية ضد المذكرة التي أصدرها يوسف بلعباس، وزير التربية الوطنية حينئذ، وتنص على منع من هم فوق 17 سنة من ولوج أسلاك التعليم الإعدادي. تواصلت الاحتجاجات، ولحقت بها فئات مجتمعية أخرى: الآباء، العمال، الطبقات الشعبية، سكان أحياء الهامش والعاطلون. لم يجد النظام من وسيلة لوضع حد لتلك الاحتجاجات سوى الرد بعنف. هنا، أطلق الجنرال أوفقير، وزير الداخلية آنذاك، يده للتدرب على رشاش، من داخل طائرة هيلِكوبتر، لقتل من هم على الأرض في الدار البيضاء. ثم توالت الأحداث: أعلن الحسن الثاني حالة الاستثناء، وافتقد العالم أثر المهدي بن بركة، المعارض والقيادي الاشتراكي، في العاصمة الفرنسية باريس. في تلك الأثناء، بدأ المغرب المستقل يدخل فتراته المظلمة التي دامت أكثر من 25 سنة.
أمين الجزولي
تتمة المقال تجدونها في العدد 80 من مجلتكم «زمان»