يعتبر المؤرخ عبد الواحد أكمير، أحد أهم المتخصصين في التاريخين المغربي والإسباني، منذ عصور الأندلس إلى غاية عصر الملكيات والديمقراطية اليوم. في هذا الحوار، نغوص مع المؤرخ في طبيعة العلاقة بين المغرب وبين جارته إسبانيا والتاريخ المشترك بينهما. وبالإضافة إلى إطلاعه لنا عن مساره الأكاديمي المتميز وأطروحته المتفردة في الأرجنتين، يكشف ضيفنا خبايا الواقع الأكاديمي والسياسي والتعليمي لإسبانيا، ونظرتها إلى المغرب وسياسته وشعبه وتاريخه، كما نفهم من خلاله طبيعة العلاقة بين الحسن الثاني وفرانكو قبل انطلاق المسيرة الخضراء التي غيرت مسار البلدين.. فضلا عن قضايا أساسية أخرى.
قبل الخوض في مسارك الشخصي والعلمي، كيف ينظر المؤرخ أكمير إلى تحسن العلاقات المغربية -الإسبانية مؤخرا؛ هل هو تحسن مبني على ظرفية مؤقتة أم تحسن ذو أسس قوية ومتينة؟
تستند العلاقات المغربية – الإسبانية على خمس دعامات كلها تحتاج إلى أن تكون العلاقات متينة بين البلدين. الدعامة الأولى هي الاقتصاد، وفيها حجم التبادل التجاري يجعل إسبانيا هي الشريك التجاري الأول للمغرب، ناهيك عن الاستثمار، حيث أكثر من 800 مقاولة إسبانية توجد بالمغرب. الدعامة الثانية هي المجتمع، وهذا تمثله الجالية المغربية في إسبانيا والتي تعد من أهم الجاليات الأجنبية من حيث العدد، وتحتاج إلى تضافر الجهود بين البلدين لتسهيل اندماجها الاقتصادي والاجتماعي. الدعامة الثالثة هي الملف الأمني، وهنا التعاون أساسي في قضايا مثل الهجرة السرية، ومكافحة الإرهاب، والجريمة المنظمة والمخدرات. الدعامة الرابعة هي الملف الثقافي، ويكفي التذكير إلى أن أقدم بعثة ثقافية إسبانية في العالم توجد بالمغرب .ولكن بجانب هذه الدعامات الأربع، هناك الدعامة المحورية، وهي قضية الصحراء، فهي “الترمومتر“ الذي يقيس حرارة العلاقات المغربية الإسبانية. مدريد تعرف ذلك، ولكنها وعت به بشكل أكبر بعد الأزمة التي اجتازتها العلاقات المغربية الإسبانية سنة .2021 هذه الأزمة لم تكن هي سبب تغيير الموقف الإسباني من ملف الصحراء، بل إن تغيير الموقف الإسباني وتعديله لصالح دعم مقترح المغرب للحكم الذاتي، هو موقف بنيوي وليس ظرفيا، فعندما نعود إلى التقارير التي تكلف الحكومات المتعاقبة مراكز صنع السياسات في إسبانيا بإنجازها، نجد أن هذا الموقف بدأ ينضج منذ سنة .2008 وقد عبر آنذاك رئيس الحكومة، الاشتراكي “ثباتيرو“، عن دعمه لمقترح الحكم الذاتي، وإن لم يكن ذلك بشكل رسمي كما حدث اليوم. كما أن التقرير الذي صادق عليه مجلس الوزراء الإسباني، سنة ،2014 أثناء فترة حكم الحزب الشعبي، يسير في الاتجاه نفسه. وبالتالي نحن أمام موقف دولة يتفق عليه قطبا التناوب السياسي في إسبانيا، وليس موقف حكومة، قد يتغير بتغيير الحكومات .إن ما فعلته أزمة 2021 هي أنها عجلت باتخاذ القرار، ولكن القناعة كانت موجودة قبل ذلك بسنوات، بكلمة واحدة، أصبحت العلاقات المغربية الإسبانية، محكومة اليوم بما يسمى بـ“La realpolitik” أو الواقعية السياسية.
كيف بدأت علاقتك الأكاديمية مع اللغة الإسبانية والعالم اللاتيني؟
قبل العلاقة الأكاديمية كانت هناك علاقة اجتماعية، فتطوان، التي عشت فيها مرحلة الطفولة والمراهقة خلال ستينات وسبعينات القرن العشرين، كانت بها جالية إسبانية مهمة، ولم يكن الإسبان من الطبقة العليا فقط، بل كانوا من مختلف الشرائح الاجتماعية .أذكر أن الحي، الذي تربيت فيه، كان هناك صاحب دكان الأدوات المنزلية إسباني مختلط بالمغاربة بشكل كبير، وكذلك خيّاطة الحي، والتي اعتنقت الإسلام نتيجة لذلك الاختلاط وحملت اسم خديجة، وقد اشتهرت بيننا في الحي باسم “خديجة الإسلامية“. كان هؤلاء الإسبان يعرفون العربية بل وحتى الأمازيعية؛ وأذكر مرة زارتنا إسبانية صديقة لوالدتي، وجلستُ معهما، فكانتا تتحدثان بالأمازيغية والإسبانية، يعني كان هناك نوع من الاختلاط الثقافي لم يسجل بالأهمية نفسها، مع الجالية الفرنسية في المناطق التي خضعت للحماية الفرنسية.
كنت خلال تلك المرحلة أزاوج بين الدراسة والتجارة، فكنت لما أخرج من المدرسة أتوجه مباشرة إلى دكان الوالد، وكان جزء من زبائنه من الإسبان، كما كان له تعامل تجاري مع اليهود. وهنا كذلك، نجد فرقاً بين يهود المنطقة التي خضعت للحماية الإسبانية ويهود المنطقة التي خضعت للحماية الفرنسية. نسبة كبيرة من يهود شمال المغرب، هم حفدة اليهود الذين طردوا من الأندلس، لذا بقي لهم ارتباط بالثقافة الإسبانية. بعضهم هاجر إلى إسبانيا أو الأرجنتين أو فنزويلا، ثم عادوا وأقاموا تجارة مزدهرة بتطوان، وقد أقام أحد هؤلاء أهم محل تجاري عصري بالمدينة، وكان يحمل اسم “ “La Caraqueña نسبة إلى عاصمة فنزويلا كراكاس. كما أن أحد هؤلاء اليهود، والذي كانت له علاقة تجارية مع الوالد، كان يبيع الساعات السويسرية من بين السلع التي يأتي بها، وأذكر أن أول ساعة حصلت عليها كانت هدية منه.
حاوره غسان الكشوري
تتمة الحوار تجدونها في العدد 110 من مجلتكم «زمان»