اختلف متصوفة الأندلس عن غيرهم من المتصوفة التقليديين، حين أسسوا لمذهب عقلي، استلهموا فيه نظريات الفلسفة اليونانية وأفكار علم الكلام.
لا يمكن طبعا فصل التصوف الفلسفي وظروف نشأته عن سياقات تأسيس التصوف نفسه، بل ونشأة الزهد الذي كان سابقا حتى عن التصوف، وكان لا يتجاوز في صوره التقشف في المأكل والمشرب، واعتزال الناس والانقطاع إلى الله، مع ما يرافق ذلك من السلوك الديني، سواء منه الباطني، كالخشية والورع والتقوى، أو الظاهري كالصلاة والصوم والتهجد والذكر، ثم تحوله من هذا الشكل البسيط إلى تأسيس مدرسة تربوية، الغرض منها تصفية النفوس ومجاهدتها ورياضتها والانتقال بها من حال إلى حال، ومن مقام إلى مقام، والترقي بها في خطوات بطيئة عسيرة حتى يصل بها صاحبها إلى المقام الذي يطلق عليه الصوفية اسم مقام الشهود أو الوجد والفناء، وهو المقام الذي بحسب قولهم يدرك فيه الصوفي من الحقائق ما لا سبيل للعقل الإنساني أن يدركه، ويتذوق من المعاني ما يكل اللسان الإنساني عن شرحه.
أما التصوف الفلسفي، فلم تظهر بوادره إلا مع القرن الثالث الهجري/التاسع الميلادي، مع العبارات التي نحتها بعض المتصوفة من أمثال ذي النون المصري وأبي يزيد البسطامي، كقول الأخير: «سبحاني ما أعظم شأني، حسبي من نفسي حسبي»، دون أن تتحول لمذهب فلسفي أو عقيدة صوفية فلسفية. ولم يكن ذلك إلا خلال القرن الرابع الهجري/العاشر الميلادي، خصوصا مع الحسين بن منصور الحلاج، حيث انتقل التصوف من تصورات الذوق والوجد، وأحوال الكشف والفناء إلى محاولة تفسير السلوكيات الروحية وتأويلها، وتعليلها بشكل عقلاني“، وهو ما أنتج عددا من النظريات الفلسفية المؤطرة لما سيعرف بـ“التصوف الفلسفي“، أو “التصوف المعرفي“، أو ما يسميه البعض بـ“العرفان النظري“، تمييزا له عن “العرفان العملي“ وهو التصوف السلوكي.
محمد عبد الوهاب رفيقي
تتمة المقال تجدونها في العدد 105 من مجلتكم «زمان»