في إطار جلسات الاستماع التي خصصتها اللجنة المكلفة بتعديل مدونة الأسرة لمختلف الهيئات والمؤسسات والجمعيات، استجابة للرسالة الملكية الموجهة لرئيس الحكومة، والتي دعت إلى مقاربة تشاركية تتيح لكل الفاعلين سياسيا وأكاديميا وجمعويا تقديم مقترحاتهم للتعديل إلى اللجنة، قدمت عدد من الأحزاب السياسية تصوراتها وتوصياتها حول التعديلات المرتقبة، ضمن مذكرات منشورة وموضوعة على منصاتها الإلكترونية. فما هي أهم ما اقترحته الأحزاب الكبرى بالمملكة؟ وما هي أهم الفروق بينها؟ وما هو السقف الأعلى لهذه التوصيات؟
بين تيار حداثي واتجاه محافظ
لم يختلف ما جاء في أغلب هذه المذكرات عن التوجهات الفكرية التي تتبناها هذه الأحزاب، ولم تخرج عن دائرة الاصطفاف الإيديولوجي التقليدي بين تيار حداثي واتجاه محافظ، بدرجات مختلفة وأسقف متباينة، حيث يمكن تصنيف أحزاب “الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية” و”التقدم والاشتراكية” و”الأصالة والمعاصرة” ضمن الاتجاه الأول، وحزبي “العدالة والتنمية” و”الاستقلال” ضمن الثاني، ووسط بينهما كما هو الحال بالنسبة لـ”التجمع الوطني للأحرار” و”الحركة الشعبية”.
ورغم هذا الاصطفاف والافتراق، فإن بعض أبواب المدونة قد حظيت بالإجماع على ضرورة تعديلها، مع الاختلاف في كيفية هذا التعديل، كقضايا النيابة الشرعية والحضانة على الأطفال. فإذا كانت مواقف الأحزاب الحداثية واضحة حول ضرورة الجمع بين الحضانة والولاية، إما بأن تكون الولاية مشتركة بين الزوجين، أو أن تكون لمن له الحضانة، فإن الأحزاب المحافظة لم تخرج اقتراحاتها عن هذا الاتجاه، فحزب الاستقلال يرى أن الولاية تكون للحاضن، وحزب العدالة والتنمية وإن حاول التشبث بمنح الولاية للأب، فإنه اقترح تمكين المرأة من الولاية القانونية على أبنائها، فيما نحت أحزاب الوسط إلى نفس ما تبنته الأحزاب الحداثية.
إلا أن المثير هنا هو اتفاق أغلب الأحزاب بمختلف اتجاهاتها على اقتراح عدم إسقاط الحضانة عن الأم المطلقة حالة زواجها، حتى حزب العدالة والتنمية رأى في مذكرته أن هذا الإسقاط لا يعتبر “أمرا مستقيما”، وهو ما يسائل الحزب عن السبب في تشدده بخصوص بعض القوانين، بحجة وجود حديث نبوي يحسم أمرها، فيما أن إسقاط الحضانة عن الأم بسبب الزواج يجد حجته عند الفقهاء في نص حديث نبوي وارد في الموضوع.
من المواضيع أيضا، التي اعترفت تقريبا كل الأحزاب بإشكاليتها، وإن اختلفت الاقتراحات المقدمة، موضوع التعصيب في الإرث، فحتى حزب العدالة والتنمية الذي يصر على أن قضايا الإرث عموما غير قابلة للمس، اقترح تدخل القضاء بما لا يسمح بتشريد الزوجة والبنات فيما يخص السكن الرئيسي، فيما ذهبت أغلب الأحزاب الأخرى بما في ذلك التجمع والحركة إلى ضرورة تعديل هذا النظام، وتفعيل خاصية الرد على البنت والبنات وتقديمهن على باقي العصبة، وهو نفس ما طالب به حزب الاستقلال رغم نفسه المحافظ.
تزويج القاصرات وتعدد الزوجات
زواج أو تزويج القاصرات شكل محل خلاف بين مذكرات الأحزاب السياسية، ففيما يدافع حزب العدالة والتنمية عن نص المدونة الحالي، ومنح القضاء صلاحية تزويج القاصرات مع عدم السماح به مطلقا لمن لم تصل سن الخامسة عشرة، واقترح حزب الاستقلال تحديد أقل سن للزواج في ست عشرة سنة، ودعا حزب الحركة الشعبية إلى تشدد القضاء في الاستثناء وعدم تحويله إلى قاعدة، مع منع تزويج المتمدرسة قبل ثمانية عشرة سنة، فقد ذهبت الأحزاب الحداثية إلى ضرورة منع زواج القاصر مطلقا، بل تجريمه وتصنيفه ضمن جرائم الاتجار بالبشر، وهو نفس المطلب الذي تبناه حزب التجمع الوطني للأحرار حين دعا إلى إلغاء كل مواد الاستثناء وتوحيد سن الزواج بين الفتى والفتاة.
تباينت الآراء أيضا بخصوص موضوع تعدد الزوجات، ففيما يرفض حزب العدالة التنمية مطلقا حظر التعدد، ويؤيده نسبيا في ذلك حزب الاستقلال الداعي إلى وضع شروط تقييدية إضافية، رغم أن زعيمه التاريخي علال الفاسي كان من أوائل الداعين بالمغرب إلى الحظر، تدعو الأحزاب الحداثية إلى المنع القاطع لتعدد الزوجات، لأنه بحسب مذكرة حزب التقدم والاشتراكية يشكل “أحد أسوأ أشكال التمييز والعنف القانوني ضد المرأة، فهو يحط من قدرها ويمثل شكلاً جديدًا من أشكال العبودية”، فيما أن أحزاب الوسط دعت إلى مزيد من القيود في منح الإذن المتعلق بالتعدد، مع اتفاق الجميع على عدم الإحالة التلقائية للزوجة الأولى على تطليق الشقاق حالة رفضها لزواج شريكها.
أما بخصوص إثبات النسب للمولودين خارج علاقة الزواج، فإذا كانت الأحزاب جميعا على تحميل الأب البيولوجي المسؤولية التقصيرية وتبعات الكفالة، فإنها اختلفت في إمكانية منحه النسب، فالأحزاب المحافظة كالاستقلال والعدالة والتنمية قد رفضت منحه النسب لوالده الطبيعي، ودافعت عن استمرار التفريق بين البنوة الشرعية وغير الشرعية، فيما الأحزاب الحداثية ومعها الحركة الشعبية دعت إلى عدم التفريق وإثبات النسب متى ثبتت البنوة، مع تأكيدها على ضرورة النص على الخبرة الجينية كوسيلة قطعية لإثبات النسب والبنوة، أما حزب التجمع الوطني للأحرار فقد تحاشى الحديث عن الموضوع، واكتفى بالحديث عن معالجة خاصة لحالات الاغتصاب.
المادة 16 من مدونة الأسرة الحالية أثارت بدورها تباينا في الرؤى بين الأحزاب السياسية، ففيما تدافع الأحزاب المحافظة عن ضرورة فتح فترة جديدة لتوثيق عقود الزواج، ويدعو حزب العدالة والتنمية إلى ترك الباب مفتوحا باستمرار لهذا التوثيق، ترى الأحزاب الحداثية أنه لا بد من غلق الباب نهائيا واعتبار العقد القانوني الوثيقة الوحيدة المثبتة لوقوع الزواج، فيما يرى حزب الأصالة والمعاصرة التفريق بين من كان قصده الاحتيال على القانون لتفادي مسطرة الإذن بالتعدد أو الزواج بقاصر، وبين بعض الحالات الاستثنائية التي تحتاج لتوثيق.
الإرث وتوزيع التركات
إشكاليات الإرث وتوزيع التركات رغم اتفاق أغلب الأحزاب على ضرورة معالجة قضايا التعصيب كما سبق، واتفاق الجميع بما فيها الأحزاب الحداثية على عدم طرح مبدأ المساواة المطلقة بين الرجال والنساء في الإرث، مراعاة للمنهجية التي سطرتها الرسالة الملكية المؤطرة لورش تعديل مدونة الأسرة، فإنها اختلفت في تناولها لبعض القضايا الأخرى المرتبطة بنظام الإرث كالوصية، فحزب العدالة والتنمية يرفض أي تعديل لنظام الوصية بشكله الحالي، خاصة ما يتعلق بالقيود المفروضة عليه من عدم الوصية لوارث وعدم تجاوز الثلث، فيما حزب الاستقلال رغم محافظته فقد تضمنت مقترحاته تعديل نظام الوصية بحيث يمكن صرفها للورثة في حدود الثلث، فيما أن الأحزاب الحداثية ومعها حزب الحركة الشعبية يرون ضرورة رفع كل القيود عن الوصية، وتقديمها على أنصبة الميراث المقدرة.
ومن القضايا التي وجد فيها حزب العدالة والتنمية نفسه وحيدا ما يتعلق بتدبير الأموال المكتسبة في فترة الزواج، إذ لا يزال مصرا على رفض كل الاقتراحات في الموضوع، ويرى تدبير الموضوع بما هو عليه الحال في القانون الحالي، فيما أن أغلب الأحزاب الكبرى بما فيها الاستقلال تقترح ضرورة تعديل هذا النظام، وإلزامية اختيار الزوجين لأحد العقدين: الذمة المستقلة أو الذمة المالية، وإن لم يصل اقتراحه إلى ما ذهبت إليه الأحزاب الأخرى، سواء الحداثية منها أو أحزاب الوسط، من ضرورة تقييم العمل المنزلي، والتقدير المادي لمدى مساهمة كل زوج في الأموال الطارئة بعد الزواج.
ونظرا لما تثيره المادة 400 من مدونة الأسرة الحالية من جدل ونقاشات حادة، فقد أدلت أغلب الأحزاب برأيها في الموضوع، فتشدد حزب العدالة والتنمية كعادته في الدفاع عن النص الحالي، ورفض أي تعديل للمادة، واعتبرها “خطًا أحمر لا يمكن تجاوزه”. وفي مقابل ذلك دعا كل من الاتحاد الاشتراكي والتقدم والاشتراكية إلى إلغائها، فيما أن أغلب أحزاب الوسط تفادت الحديث عن الموضوع.
من الواضح في الأخير أن حزب العدالة والتنمية يرفض ضمنيا تعديل مدونة الأسرة، بحكم تشدده في أغلب القضايا المطروحة، ودفاعه عن القانون الحالي بكل عيوبه واختلالاته، ولم يطرح في مذكرته سوى اقتراحات إجرائية بسيطة، أما حزب الاستقلال فرغم انتمائه للتيار المحافظ فقد كانت بعض اقتراحاته تحمل نوعا من التقدم و الجرأة، أما الأحزاب الحداثية الكبرى فرغم أنها كانت وفية لمواقفها السابقة في الغالب، إلا أنها لم تتجرأ في مذكراتها على وضع بعض مقترحاتها السابقة، بسبب السقف الذي وضعته الرسالة الملكية، خصوصا ما يتعلق بعدم تعديل ما ورد فيه نص قرآني صريح.
محمد عبد الوهاب رفيقي