أصدر محمد بنسعيد آيت إيدر، مؤخرا، مذكرات يستعرض فيها تاريخه النضالي والسياسي. “زمان” اختارت مقتطفات عن مسارات مثلت مراحل مفصلية في حياة الرجل. (الجزء الأول)
اليتيم
ولدت عام 1925 بقرية تينمنصور باشتوكة آيت باها، وسط عائلة متوسطة تمتهن الفلاحة والتجارة، وتتمتع بنفوذ كبير بالمنطقة. حرمت من حنان الأم وأنا في سن الطفولة، فقد توفيت والدتي وعمري لم يتجاوز السادسة. وهكذا، نشأت يتيما بالرغم من أن والدي تزوج بعدها بوقت قصير.
ما تحتفظ به ذاكرتي عن هذه المرحلة هو أن زوجة والدي الجديدة، أدخلت إلى بيتنا المشبع بتقاليد بيئة الفلاحين نمط حياة مختلف، وعوائد أخرى لا عهد لنا بها نظرا لأنها كانت سيدة حضرية تنحدر من المدينة. فبلمسة واحدة من زوجة والدي هذه تبدلت كثير من عاداتنا البيتية في الأكل والتربية والسلوك.
الدراسة من تينمنصور إلى مراكش
كنت، وأنا أكبر الأبناء، قد حفظت ستين حزبا بأكثر من قراءة. لم يكن عمري يتجاوز الرابعة حين التحقت بالمسيد (الكتّاب) الكائن بقريتنا. وقد تضايقت من الفراغ الذي بدأت أشعر به فور انتهائي من مهمة حفظ القرآن كاملا وتعلم الكتابة بالحروف العربية. وبضغط من هذا الفراغ، وافقني الوالد على الانتقال إلى مدرسة تدرس العلوم العربية. تمكنت من مغادرة القرية في بداية الأربعينات متوجها إلى مدرسة قريبة شيئا ما. قضيت فيها حوالي سنتين… ثم انتقلت إلى مدرسة أخرى تبعد كثيرا عن اشتوكة وتقرب من حدود منطقة آيت باعمران… كان الوصول إليها يتطلب مني ركوب سيارة نقل من تينمنصور حتى تزنيت، ثم أقطع المسافة الباقية راجلا…
وجدت الدراسة تؤدى بشكل تقليدي والدروس تترجم كلها إلى اللغة الأمازيغية. وكنت أجد صعوبات في إتقان النطق باللغة العربية إلى أن انتقلت إلى مراكش لمتابعة دراستي في مدرسة بن يوسف.
الخوف من عنف الفقيه
كان والدي يعزنا… فهو بحكم تجارته لم يكن يمكث كثيرا بالبيت. كان يستهلك وقته في السفر بين مراكش ونواحي الصحراء، وقد عودنا كلما عاد من إحدى رحلاته أن يجلب لنا هدايا. أما الشيء الوحيد الذي كان يتشدد فيه معنا كثيرا فهو ذاك المتصل بتعليمنا، إذ كان يمنح للفقيه سلطة مطلقة في معاقبتنا. هذا الأخير، باسم التربية وحفظ القرآن، لم يكن يتورع عن استعمال العنف وأحيانا ممارسة التعذيب من قبيل استخدامه لقلم حاد من القصب يقرص به ما تحت ذقوننا إلى حدّ الإدماء. لذلك كنا نرتعب من هذا الفقيه الذي كان سببا في تأجيج رغبتي في الابتعاد عن القرية والالتحاق بمدرسة أخرى.
المصاهرة مع عائلات قريبة من المخزن
كانت علاقات أبناء العائلة، الذين ترسخت مكانتهم بفضل النجاح الباهر في مجالات الفلاحة والتجارة، تدور وتتقوى من خلال علاقات المصاهرة مع عائلات ذات إمكانات وموقع اجتماعي محترم أو قريبة من محيط المخزن القديم أو الجديد… كان لعائلة آيت إيدر خدم وخادمات يقومون بالمهام البيتية، كالطحن والطبخ، لمجموع العائلة وللضيوف الذين يتواردون على دار آيت إيدر بمناسبة أو بغيرها، وكذا لعمال الخدمات السنوية كالحرث والحصاد والدرس ورعي الغنم والجمال، وللعاملين في الضيعات القريبة من المنزل…
اعتقالي من طرف الحماية الفرنسية
ارتأيت في دجنبر 1952، أن أسافر إلى الرباط لبحث سبل الاتصال بجريدة “العلم” وتأمين وصول مراسلاتي التي تغطي ما يقع في الجنوب من أحداث. وقد تصادف هذا مع حدث اغتيال الزعيم النقابي التونسي فرحات حشاد، ففوجئت باضطراب الأجواء…، قفلت عائدا إلى قريتي لأتعرض للاعتقال صحبة مسؤولين آخرين من حزبالاستقلال…
ومن أهم الأحداث، التي فرضت على قواعد الحركة الاستقلالية اختيار المقاومة المسلحة، ما عرف في مستهل الخمسينات بقضية أحمد الحنصالي. فعلى إثر اصطدام له مع إدارة الحماية، حمل السلاح في مبادرة شخصية وبدأ يغتال الفرنسيين، مروعا الأطلس المتوسط كله… هذا الحدث ألهب حماس المغاربة، الذين رأوا في وقوف شخص واحد في وجه جيش مجهز بأعتى وسائل القتال رمزا للبطولة والتحدي. وقبل قضية أحمد الحنصالي، كانت ثمة عملية كريان سنطرال عام 1947.