دعت وزارة الخارجية المغربية، مع مطلع السنة الجديدة، جميع القطاعات الحكومية، إلى تعليق المشاركة في مختلف اللقاءات التي ينظمها الاتحاد الأوربي، بعد قرار المحكمة الأوربية إلغاء اتفاقية المنتجات الفلاحية والبحرية الموقعة بين المملكة والاتحاد الأوربي سنة 2012. وهو ما استدعى التأكد من حسن نية الأوربيين، في طريقة تعاملهم مع المغرب في عدد من القضايا والملفات المشتركة والمتداخلة.
جرى المس بوحدة المغرب وسيادته بمبرر قضائي، ولم يكن الأوربيون في هذا الأمر، أهل بدعة، ولا سالكين نهجا غير مسبوق. فعبر آلية القضاء جرى لعب أول شوط في انتهاك سيادة البلاد منذ القرن الثامن عشر، حين رأت القوى الأجنبية أن النظام القضائي المغربي الرباعي الأنماط (الشرعي والمخزني والعرفي والعبري) لا يتسع لتجارها وسماسرتها وجواسيسها في المغرب. ففرضت في المعاهدات التي وقعها مع السويد سنة 1763 ثم مع الدنمارك وفرنسا سنة 1767 ومع البرتغال سنة 1773، نظامين قضائيين جديدين هما القضاء القنصلي والقضاء المشترك. وانتهى هذا السيناريو في الاختراق وانتهاك السيادة إلى إتباع مبدأ: “المدعي يتبع المدعى عليه إلى محكمته”، أي أن يخضع لقوانين بلده. فصارت مختلف التشريعات الأوربية مصدرا للحكم على التراب المغربي.
بعد أن مهد القضاء الأرضية، جاء الدور على خرق السيادة في النظام الجمركي سنة 1856، ثم النظام الجبائي سنة 1881. قبل تتويج هذا المسار الملتوي، بتوزيع الكعكة الاقتصادية للبلاد بين الدول المشاركة في مؤتمر الجزيرة الخضراء سنة 1906،
جرى التهافت على استغلال خيرات المغرب طيلة فترة الحماية، وتسابقت مختلف الشركات الأجنبية للظفر بصفقات ومشاريع في مختلف القطاعات. ولما آن للمستعمر أن يرحل، كان وضع المقاولات والاستثمارات والمصالح الأجنبية، حاضرا على سلم الأولويات في مختلف الاتفاقيات والتسويات.ثم ابتداء من منتصف الستينات من القرن الماضي، تم تسويق فكرة الشراكة مع السوق الأوربية المشتركة، وكأنها فرصة العمر للإقلاع الاقتصادي، التي على المغرب أن لا يخطئ موعده معها.
كان الباحث الأمريكي كريكوري وايت دقيقا في دراسته المقارنة بين السياسات الاقتصادية المتبعة في كل من المغرب وتونس بعد حصول البلدين على استقلالهما، وسباقهما للظفر بشراكة مع التنظيم الأوربي القوي والصاعد. فبدا له الأمر غير ذي معنى وتأثير كبير، إذ يقول: “إن الدراسات غالبا ما تضع المغرب وتونس في شبه منافسة للدخول إلى الاتحاد الأوربي والحصول على أكبر قدر ممكن من الاستثمارات الأجنبية. وإن صح هذا، فإنهم في الواقع يتنافسون على الفتات، إذ أنه وفقا لدراسة أصدرها البنك الدولي سنة 1995 يتبين أن 53.7 مليار دولار ذهبت إلى شرق آسيا والمحيط الهادي، بينما لم تستقبل منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا سوى نسبة ضئيلة لا تتجاوز 2.1 مليار دولار، ويعزى السبب في هذا التفاوت إلى أن المستثمرين لا ينجذبون إلى هذه المنطقة. وهنا يبرز التساؤل عن حجم تأثير الإصلاحات في المغرب وتونس أمام المتغيرات الدولية”. بل أنهى كتابه بعبارة تحمل أكثر من دلالة: ” كانت هذه قصة بلدين منذ إقحامهما غير المتكافئ في مجال خاضع لسيطرة أوربا، وبقيا معا خارج هذا المجال”. وهو الذي ذهب إلى تشبيه الوضع في صورة كاريكاتورية تظهر فيها الدول الأوربية مثل فرق قوية تتنافس على ألعاب أولمبية، بينما البلدان المغاربية، مثل فرق هواة تلعب بمحاذاة القرية الأولمبية. لذلك، كان بليغا حين اختار لخاتمة كتابه عنوان: من الرابح؟
تم عقد أول اتفاق تجاري بين المغرب والمجموعة الاقتصادية الأوربية بالرباط يوم 31 مارس 1969، برهانات متضاربة. فمن جهة، كان هناك طموح مغربي لتنمية اقتصادية سريعة، مقابل رغبة المجموعة في تحقيق التناغم مع مقتضيات معاهدة روما، خاصة المادة 238، والمعبرة عن مصالح دول أو إحدى دول المجموعة . ثم جاء اتفاق التعاون سنة 1976، وبرتوكول ملحق واتفاق للصيد البحري جديد سنة 1988. قبل تدشين مؤتمر برشلونة سنة 1995 للانتقال من منطق التعاون إلى منطق الشراكة الأورو متوسطية، فجاءت اتفاقية الشراكة الأورو- مغربية لسنة 1996 ناسخة لكل ما سبقها من اتفاقيات، وانتهى هذا المسار بحصول المغرب على الوضع المتقدم (أكبر من شريك وأقل من عضو) سنة 2008.
لم يكن عبد الرحيم بوعبيد يتحدث من فراغ، وهو الذي خبر المحاماة والاقتصاد، وقاوم الاستعمار ونادى بالتحرر الاقتصادي، حين أعلنها صراحة في إحدى حواراته التي لم تنشر سنة 1966: “لا لشراكة غير مربحة مع السوق الأوربية المشتركة”. ويوضح موقفه قائلا: “إن انخراط المغرب في السوق الأوربية المشتركة سيجعل من بلادنا شريكا من الدرجة الثانية، سيكون عليه الخضوع لقرارات الستة. لنتأمل ما الذي يحدث في إطار العلاقات بين الدول الستة وشركائها من دول إفريقيا، وجميع هذه المجالس الأورو- إفريقية التي تسعى إلى أن تكون هيئات للتصور والقرار… كل هذا ليس جديا. على مستوى الاستثمار، تمنح كل سنة لهذه الدول الشريكة بضعة مليارات لا تسمن ولا تغني من جوع، ولا يمكنها في كل الأحوال أن تنقدها من التخلف”.
لا نعتقد أن الدول الأوربية تقدم الصدقات والهدايا لشركائها من دول الجنوب، بل تبقى دائما هي الرابح الأكبر. لذلك، يجب القطع مع المنطق الاستعماري المحكوم بالاستغلال والاستعلاء والمس بالسيادة. والمغرب ضمن هذه المعدلات لا يعدم وسائل لتعزيز قوته التفاوضية، في أفق شراكة تراعي المصالح وتحفظ السيادة.
الطيب بياض
مستشار علمي بهيئة التحرير