هل هو الأمل المؤود، على غرار التناوب المجهض، عنوان كتاب قيّم لمحمد الطايع؟ هل تدحرجت صخرة الأمل ثانية إلى السفح كما تتدحرج صخرة سيزيف بلا معنى؟ بعد خمس سنوات من الحراك، ومن الرّتق، اتسع فيها الخرْق… نعم لم يكن الدستور إلا وسيلة، ولم يكن بالطريقة التي أُسرع بها، إلا محاولة لدرأ الأخطار المحتملة. كان جوابا ذكيا عبارة عن علاجات أولية. كان الرهان بالأساس على الفاعلين السياسيين، وعلى ثقافة سياسية جديدة، أي العلاج العميق، وهو ما عُبر عنه بمصطلح دخيل من عربية المشرق التي ترجمت عن الإنجليزية “To Put On The Ground ” تنزيل.. أي تطبيق على الأرض (ولا علاقة لها بمصطلح التنزيل في القرآن الكريم)… اهتز هذا البناء على فضيحة كالفن، حيث بدا أن أخلاقيات الدولة منعدمة تماما، جعلت ظهور المحتجين على الخِّسة والهوان قربانا للجهل والاستهتار، كما لو أن لم يكن هناك حراك ولا قوى حية، وليس من ضمير جمعي…
وها نحن أولاء أمام امتحان آخر، من الاحتقان الاجتماعي والبوار السياسي يبدو فيه الفاعلون على غرار المقولة المأثورة عن أسرة البوربون، لم ينسوا شيئا، ولم يتعلموا شيئا. لم ينس “سادتنا” الأساليب القديمة، ولم يستخلصوا العبرة مما حدث وما يحدث. يواجهون بالعنف مطالب اجتماعية، ويتحدثون لغات عدة لتبرير فعل ممجوج أصلا… والمسألة أعمق من مرسوم أو مراسيم. المسألة أعمق من قطاع بعينه، إلى أسلوب ومقاربة ورؤية، أو انعدام رؤية. نعم نشكو أزمة فاعلين، وأزمة خطاب، وأزمة أسلوب.
لم ترْقَ القوى السياسية إلى آمال اللحظة ومخاوفها كذلك. يهمها بالأساس تحالفاتها العابرة، من أجل مناصب، وتهمها نتائج الانتخابات أكثر مما يهمها مصير البلد، وتحسب أنها بقفشات سقيمة تبني خطابا وترسم خطة وتفتح آفاقا وتبدد مخاوف. لم يسِفَّ الخطاب السياسي قط إلى هذا الاندحار لكي تصبح جنبات البرلمان حلبة للملاكمة و”المصافعة”، ولم تبلغ قط هذا التدني من الإيحاءات الجنسية، ولم تعرف تغيير الولاءات كما في المسرح Coup de théâtre
بشكل فج، ولم تعرف هذه التحالفات التي لا رأس لها ولا ذيل ولا منطق، من أصحاب الحتمية التاريخية، مع الإشراقات النورانية، ومن الخطابات الأخلاقية والتصرفات اللاأخلاقية، ومن حلف G8 ضد “الطهرانية”، إلى التحالف مع “الطهرانية”، ضد ماذا أو مع ماذا، لله وحده أعلم والراسخون في العلم.. ومن قول الشيء والضحك منه، إلى قول نقيضه والضحك على من يتسمع إليه. ومن الاعتراض الشرس إلى المساندة النقدية، ولعلها أن تكون من النقد (البينكة)، كما يقول بعض الظرفاء.
ما الحصيلة بعد حراك قرأه الفاعلون من مختلف المشارب وكأنه ناقوس خطر وإجراءات اعتبرت أولية لكي تتسنى المعالجة العميقة؟ الحصيلة أنا طبّعنا مع المقاربة التقنقراطية، وطبّعنا مع الوافد الجديد، ولم يعد أي شيء منه يثير استغرابنا، وزدنا الشعبوية. طبّعنا مع كل شي إلا ما ينبغي أن نُطبّع معه، “المعقول” الذي أصبح كلمة تلوكها الألسن لا غير. وزدنا عليه مصطلحات من قبيل كلاشينكوف صناديق الاقتراع، والجهاد البنكي، و Je suis clair والنكات البائخة، وحديث الشوافات، والتنابز، وهو الأمر الممجوج في أخلاق الإسلام، فضلا عن التماسيح والعفاريت، وجوج فرنك، وكنسرح بنادم، وهلم جرا. كل هذا غير جدي، ولا يلتئم مع أمة أعطت رجالات سياسية ذاع صيتهم خارج الوطن، وبصموا الحياة العامة بخطاب وأسلوب ورؤية، أمثال عبد الكريم الخطابي وعبد السلام بنونة وعلال الفاسي وبلحسن الوزاني والمهدي بن بركة وعبد لله إبراهيم وعبد الرحيم بوعبيد. يمكن لظرفية معينة أن تلعب لصالح تنظيم ما، ويمكن أن يوظف نسيجه، ويستثمر مخاوف العقلاء الانغمار في المجهول، ولكن ذلك لا يمنحه شيكا على بياض، ولا يعفيه من المسؤولية التاريخية، إن لم يكن اليوم، فغدا.
يحكى عندنا أن شخصا اتخذ له كلبا لكي يحميه ويرهب به المتحرشين به. عُرف الكلب اسم بريجة. فكان الرجل يمشي مطمئنا وكلبه يصد عنه العوادي والتحرشات، وحدث مرة أن داهمهما السيل وجرف الكلب، فأخذ الكلب يستنجد صاحبه، فلم يَسَعِ الرجل سوى أن قال له والحديث بالأمازيغية: “غاسْ ساعْفْ أمانْ أبْريجة” أي جارِ السيل، واتركه يأخذك. كان خليقا بالرجل إن لم ينقذ من ضحى بجانبه، أن يلتزم الصمت، عوض نصائح بائخة. يخيل إلي وكأن لسان الحكومة “المطهرة” تقول لنا: “غاس ساعفات أمان أبريجات”، بمعنى اتركوا اليأس يجرفكم.
وما ذا لو رفض سيزيف المغربي عبثية العملية، وما ذا لو استخلص “بريجة” العبرة من تخاذل صاحبه وقد كان هو الذي يحميه ويصد عنه العوادي؟
حسن أوريد
مستشار علمي بهيئة التحرير