كان تأثير الأندلسيين، الذين استقروا بالمغرب، جليا في العديد من المجالات، بدءا من المأكل والملبس إلى الثقافة وفن العمارة والملاحة البحرية.
توالت الهزائم بعدها فسقطت قرطبة سنة 1236، وأعقبتها بلنسية سنة 1238 فإشبيلية سنة 1248، وبعدها قادس وألمرية ومدن المرافئ ما بين 1485-1489. وخلال هذه الفترة توالت هجرات الأندلسيين إلى بلاد المغرب، وكان منهم علية القوم، والتجار أو المتعلمون، فغشوا بلاطات أمراء المغرب بتونس وبجاية وتلمسان وفاس، وصحبوا معهم طرائقهم وفنونهم ومعارفهم. وعن هذه الفترة يقول ابن خلدون: «وأما أهل الأندلس فافترقوا في الأقطار عند تلاشي ملك العرب بها ومن خلفهم من البربر، وتغلبت عليهم أمم النصرانية، فانتشروا في عدوة المغرب وافريقية، وشاركوا أهل العمران بما لديهم من الصنائع، وتعلقوا بأذيال الدولة».
ما بعد واقعة العُقاب
كان تأثير الأندلسيين جليا في البلاطات، حيث كانوا كتاب الدواوين، وأصحاب المشورة، ولكن تأثيرهم الثقافي كان أقوى مثلما يقول شيخ المؤرخين التونسيين محمد الطالبي، لتفوقهم الثقافي وانتشار المعرفة في صفوفهم، مما جعلهم، حسب قوله «يحتكرون مهنة التعليم لما كان لأساليبهم التي قدموا بها من جاذبية، ولما قوبلت به من رضى واستحسان، فنشروها في البلاد وعمموها، وغيروا هكذا تماما البيداغوجية الإفريقية، مثلما وقف على ذلك ابن خلدون نفسه».
بيد أن للطالبي حكما قاسيا على تأثيرهم السياسي، إذ يراه سلبيا. «لقد قدم الأندلسيون ـ يقول الطالبي ـ لاجئين بعد ما أضاعوا بلادهم وخرجوا منكوبين من وطنهم. ولقد شاهدوا كيف انتصر عليهم المسيحيون بفضل سياسة واعية متواصلة حافزها ومحورها استرجاع الوطن السليب. كل هذا كان من شأنه -مبدئيا- أو يوقظ فيهم الضمائر، ويدعوهم إلى التفكير، وإلى حفز الهمم، والإعراض عن الخسائس والسفاسف، ويجعل منهم حزب يقظة وإصلاح، بل -لِم لا؟ – حزب إعداد العُّدة لاستعادة ما اغتُصب منهم بالقوة. لقد كان فقدان الوعي كاملا. وكل ما فكرت فيه نخبة القوم وأصحاب الأقلام منهم هو أن يعوضوا ثديا بثدي -وإن كان أقل نعومة- لقد حمل الأندلسيون في حقائبهم المرض الذي منه ماتت الأندلس، فزادوا إفريقية ـ في المستوى السياسي، مرضا على مرضها».
ومهما يكن من أمر هذا الحكم، فأثر الأندلسيين كان جليا في مراكز القرار، من خلال الدواوين، والسفارات وخطط الوزارة، كما كان قويا من الناحية الثقافية والعمرانية، ولا أدل على ذلك من أثر العمران الأندلسي في المعمار المغربي في عصر بني مرين، كما تشهد على ذلك مدارسهم، في كل من فاس ومكناس وسلا، أو قصبة شالة، أو النواة الأولى للقصر الملكي بفاس، المصاقب لفاس الجديد، في مقابل فاس البالي الذي أرسى نواته المولى إدريس الثاني. ومن المؤثرات التي صحبوها فن الموسيقى الذي كان يُعرف بالآلة، وهو الاسم الأصح، عوض الموسيقى الأندلسية، وتعتمد هذه الموسيقى حسب الدراسة التي قام بها الدكتور عباس الجراري على الأداء الآلي القائم على الوتريات وبخاصة على الرباب والعود والطر (ضابط الإيقاع)، مع نصوص شعرية من الموشحات والأزجال.
وعن هذه الفترة يعود التأثير الأندلسي في الطبخ المغربي، ومنها طبق البسطلية الشهير، إذ يفيد أصل الكلمة القشتالي العجائن.
وتحمل العائلات الأندلسية التي نزحت في هذه الفترة أسماء عربية، تنتهي في الغالب بحروف التوقير «أون» مثل خلدون، وشقرون وبنجلون وبنحيون.. إلخ. كانت وجهة هذه الشريحة فاس بالدرجة الأولى، فمراكش، وكذا أسفي، حيث كان لسان ساكنتها الناطقة بالعربية لا يختلف عن لسان غرناطة مثلما أبدى شيخ الدراسات الأندلسية بالمغرب الدكتور محمد بنشريفة في دراسة مستفيضة عن الموضوع.
حسن أوريد
تتمة المقال تجدونها في العدد 19 من مجلتكم «زمان»