لم أتوقع يوما أني سوف أكتب في”زمان”، ولا أعرف من هذا الأحمق الذي وافق على ظهور اسمي في مجلة رصينة. لقد ترددت كثيرا قبل أن أقدم على هذه الخطوة، لأني أولا كاتب غير جاد، وغير رصين، ومن غير المقبول أن أزاحم مقالات جادة ومحترمة ومتخصصة في التاريخ.
وثانيا لأن ذاكرتي مثقوبة، ولم يسبق أن علق في رأسي أي شيء يتعلق بالماضي، وأنسى بسرعة، زيادة على أني غريب عن هذا المجال، ومعرفتي التاريخية صفر، وليست لدي أي معلومة يمكنني أن أقدمها للقراء المحترمين والمتطلبين.
وليس بمقدوري أن أكذب أو ألفق، كما أفعل عادة في كتاباتي، وكأن الذي اقترح علي أن أنضم إلى المجلة، أراد في الحقيقة الإيقاع بي وتوريطي، وكشفي للعالم وتشويه سمعتي، أو أنه فعل ذلك بغرض الإساءة إلى هذه المجلة التي يطالعها المثقفون وكبار السن والذين يعانون من داء الحنين.
لكن هيهات يا”زمان”، ومهما فعلتم فإنكم لن تنالوا مني، وسأبذل جهدي كي لا أستسلم لزملائي المؤرخين والأساتذة، وأقول لكم، وقد صارت لي صفحة بينكم: لكم تاريخكم ولي تاريخي.
وقبل أن أتجرأ وأكتب مقالتي، قلبت صفحات المجلة، لكني لم أجد لي موطئ قدم، والأدهى هو جو الحزن والصرامة والعلمية الذي يخيم على كل المواضيع، حتى كدت أنسحب، قبل أن تكبر فضيحتي، وينتشر خبري، واقتحامي لمكان ممنوع علي الدخول إليه، أنا الذي لا أعرف ماذا وقع لي يوم أمس، فما بالك بالأزمنة الغابرة. وبعد طول تفكير، قلت مع نفسي، ما الضير في أن أصبح بدوري مؤرخا، ورصينا، وجادا، وباحثا، وأن أكف عن اللعب الذي لم أجن من ورائه أي فائدة.
وفكرت في موضوع أبدأ به، لم يطرقه مؤرخو “زمان” وصحافيوها، وفي مواجهة جهلي، لم أعثر على أي حل، إلا أن أحتال وأخدع المشرفين على المجلة، وأستعين بمؤرخي المفضل ابن الوردي، صاحب الكتاب الأعجوبة “خريدة العجائب وفريدة الغرائب”، والذي أعتبره أهم عالم تاريخ أنجبه العرب، في الماضي وفي المستقبل، ولا يضاهيه أحد من العجم ولا من الجن. ولأنكم جادون ورصينون، ولا تهتمون إلا بالسياسة والحروب والاغتيالات وببؤس العالم ومشاكله، فلن تصدقوني، حين أنقل إليكم تاريخ ابن الوردي السعيد والجميل والممتع، وسوف تعتبرونني مخرفا، وسوف تستهينون بروايتي. لقد قرأته أكثر من مرة، وأشد ما أثارني فيه هو تلك الصفحات التي تتحدث عن جزيرة واق واق، وعن جزيرة البنات التي تحكمها امرأة عريانة على سرير من الذهب، “وبهذه الجزيرة شجرة تحمل ثمرا كالنساء بصور وأجسام وعيون وأيد وأرجل وشعور وأثداء وفروج كفروج النساء، وهن حسان الوجوه، وهن معلقات بشعورهن، يخرجن من غلف كالأجربة الكبار، فإذا أحسسن بالهواء والشمس يصحن: واق واق، حتى تتقطع شعورهن فإذا انقطعت ماتت، وأهل هذه الجزيرة يفهمون هذا الصوت ويتطيرون منه”. وعلى بعد خطوات منها، توجد “نساء يخرجن من الأشجار أعظم منهن قدودا وأطول منهن شعورا، وأكمل محاسن وأحسن أعجازا وفروجا، ولهن رائحة عطرة طيبة ، فإذا انقطعت شعورها ووقعت من الشجرة عاشت يوما أو بعض يوم وربما جامعها من يقطعها أو يحضر قطعها فيجد لها لذة عظيمة لا توجد في النساء”.
وأظنني أفحمتكم يا مجلة”زمان”، وبدل أن تبحثوا عن هذه الجزيرة، وعن تلك الشجرة التي تثمر نساء بنهود كواعب، تقلبون المواجع، وبدل أن تدلوا قراءكم الأوفياء على مكان وجودها وتقدموا لهم هذه الخدمة الجليلة، وتقوموا ببحوث وتحريات وتحقيقات ورسم للخرائط وتحديد للموقع، تهتمون عوض ذلك بما لا ينفع، وبما يثير الغم والهم في النفوس. وليس عندي شك أن هذه الجزيرة موجودة، ومن أنا حتى أكذب ابن الوردي، وهو الذي سبقنا جميعا في علم التاريخ، لكنكم للأسف الشديد لا تهتمون بمثل هذه المعطيات التاريخية، وتتجاهلونها، وتعتبرونها خرافة، وتفضلون تاريخ المآسي، على تاريخ النشوة والليالي الملاح والأشجار التي يمكن أن نقطف منها البنات.
وكم من مكان لم يكن يعرفه الإنسان، وكم من قارة، وكم من جزيرة، وبفضل البحث والفضول والسفر اكتشفت البشرية أمريكا، فلم لا نقوم نحن في “زمان”، وفي أول عمل صحفي تكلفونني به، بإجراء تحقيق حول جزيرة البنات وأشجارها. ومتأكد، وبعد أن نعثر عليها، ونعلن عنها في الغلاف، أنه سيقرؤنا ملايين الشباب والشيوخ، وستكرهنا القارئات، وسنثير اهتمام الجميع بالتاريخ وجدواه. إنه تاريخنا الذي لم نطلع عليه، وحتى “زمان”، التي تقول عن نفسها متخصصة، لم تأخذ على عاتقها عناء القيام بهذه المهمة، بينما كتاب “خريدة العجائب وفريدة الغرائب” متوفر بكثرة، وفي طبعات شعبية، وفيه كل الأدلة والمعطيات والخرائط، التي تقود إلى تلك الشجرة. وإذا بقينا على حالنا، سيأتي يوم نسمع فيه أن علماء تاريخ كفارا، ترجموا الكتاب، ووصلوا إلى تلك الشجرة، وقطفوا ثمارها الناضجة، ووجدوا فيها لذة عظيمة لا توجد في النساء.
وحينها سنكتفي نحن بالتلمظ والحسرة، وسنستغرب كعادتنا، وسنرد عليهم أن ذلك كان مكتوبا في كتبنا، بينما هم يتمتعون بالأشجار، ويسقونها، ويمنعون عنا الدخول إلى الجزيرة، والتجول فيها، والاقتراب من ثمارها، ويفرضون علينا الفيزا، رغم أننا نحن من أخبرناهم بأمرها.
وما نفع التاريخ والكتب، إن لم نكن نوظفها من أجل سعادتنا ومتعنا، ومن أجل الوصول إلى جزيرة البنات التي تحدث عنها ابن الوردي بإسهاب في فصل خاص، وإن كان من دور لمجلة زمان، ولالتحاقي بها، فهو هذا، أي البحث الرصين عن تلك الشجرة، وعن كل ما شابهها، وما اختفى في المؤلفات القديمة، لنزيل بذلك غمة المغاربة ونكشف كربهم.
حميد زيد