يميز حسن قرنقل، الباحث السوسيولوجي، بين الصورة النمطية التي نشأت حول ارتباط حزب الاستقلال بعائلات بورجوازية، فاسية خصوصا، وبين الواقع الذي يظهر أن الحزب مشكل من كل الفئات الاجتماعية.
تتبعت في مؤلفك، “أهل فاس، المال والسياسة”، مسارات تشكل نفوذ عدد من العائلات الفاسية في الميدانين الاقتصادي والسياسي. هل يجوز اختزال نشأة الحزب الوطني (حزب الاستقلال لاحقا)، إلى مجرد كونه واجهة من واجهات التعبير السياسي لعائلات فاسية معينة؟
لقد تشكلت العائلات الفاسية الثرية، خلال القرن التاسع عشر، بفعل تطور التجارة الخارجية، ولكون مجموعة من مواد الصناعة التقليدية بفاس كان لها مستهلكون في مصر والقارة الإفريقية. كما أن تجارة القماش، التي عرفت أزهى فتراتها خلال هذا القرن، مكنت مجموعة من كبار تجار مدينة فاس من تطوير علاقاتهم التجارية مع مجموعة من المدن الأوربية، إلى درجة أن بعضهم استقر بهذه المدن وأصبح يتكلم اللغات الأوربية. أثناء القرن العشرين تطورت هذه العلاقات التجارية بشكل أكبر مع انفتاح البلاد على المواد الأوربية، وتطورت التجارة الخارجية مع فرنسا وباقي الدول الأوربية. أصبحت تظهر آنذاك الملامح الأولى لبورجوازية مغربية ذات أصول فاسية لها امتدادات واسعة في مختلف المدن المغربية. لم تكن علاقات البورجوازية مع الحماية الفرنسية متوترة، لأنه لم تكن هناك مزاحمة من هذه البورجوازية للبورجوازية الأوربية التي انتقلت إلى المغرب، حيث كان هناك نوع من تقسيم مجالات الاختصاص. فالبورجوازية الفاسية استأثرت بتجارة القماش والملابس والأحذية وباقي الصناعات الخفيفة، في حين اختصت البورجوازية الأوربية بمجالات الأبناك والتأمين وقطاع الخدمات، إضافة إلى بعض الصناعات الحديثة. استفادت البورجوازية الفاسية من وضعية الحرب العالمية الثانية حيث تطور الاحتكار والمضاربة في الأسعار، وهو ما مكن كثيرا من التجار المغاربة من مراكمة الأموال الطائلة.
القول بأن حزب الاستقلال كان تعبيرا عن طموحات وآمال البورجوازية فيه الكثير من المبالغة والاختزال، لأن البورجوازية الفاسية لم تتضرر أبدا من الحماية الفرنسية، بل إن انفتاح الاقتصاد المغربي ساهم في رقيها الاجتماعي ومكانتها الاقتصادية. وكما يعرف الجميع، لم يشكل التجار الكبار سوى أقلية داخل الحركة الوطنية المغربية، التي انطلقت في البداية من مرتكزات دينية قائمة على إفراغ دار الإسلام (المغرب) من المسيحيين المحتلين. ولم يتطور الشعور الوطني إلى معركة وطنية حديثة، يدافع أصحابها عن استقلال البلاد في مواجهة محتل أجنبي، إلا بتطور هذه الحركة وانضمام فئات جديدة تحمل رأسمال ثقافي مختلف يمتح من الثقافة الأوربية نفسها. وهكذا لم ينضم التجار الفاسيون إلى الحركة الوطنية إلا بشكل محتشم، وحرصوا على ألا يحتلوا الأدوار الأولى في المعركة من أجل الاستقلال، باستثناء بعض الأسماء القليلة مثل مكوار والغزاوي، والاكتفاء بالدعم المادي في الخفاء لهذه الحركة، تفاديا لتعريض علاقاتهم بسلطات الحماية لأي نوع من أنواع المضايقة أو القمع.
تميزت لحظة النشأة تلك بحادثة انفصال الحركة القومية (حزب الشورى) عن الحزب الوطني (حزب الاستقلال). هل يمكن اعتبار المنافسات العائلية عاملا من العوامل التي أدت لهذا الخلاف؟
فعلا، كان للتنافس بين كبريات عائلات فاس دور كبير في تشكيل حزب الشورى والاستقلال، ويمكن أن نجد في التنافس بين الزاوية الفاسية والزاوية الوزانية الجذور الأولى لهذا التمايز السياسي. وسيكون من قبيل المبالغة ومخالفة الوقائع التاريخية القول بأن الاختلاف بين الحزبين كانت له مبررات إيديولوجية أو ثقافية، أو على الأقل في البدايات الأولى للحزبين. فحزب الشورى والاستقلال الذي كان ينظر إليه كحزب شبه حداثي ينادي بالتريث في التعامل مع الحماية الفرنسية والاستفادة من الوجود الفرنسي لتطوير اقتصاد البلاد وإدارته وهياكله الاجتماعية، كان يضم في الأصل كثيرا من علماء القرويين الذي كانوا قريبين جدا من حزب الاستقلال على مستوى المنطلقات المذهبية والإيديولوجية. لكن خلافات شخصية مع بعض زعماء الاستقلال جعلتهم يفضلون الالتفاف حول محمد بلحسن الوزاني الذي كان يتمتع بثقافة عصرية واسعة ورؤية سياسية استباقية. في المقابل، كان حزب الاستقلال يضم مجموعة من الشخصيات السياسية ذات المرجعية الثقافية الغربية مثل الدويري وعبد لله إبراهيم وعبد الرحيم بوعبيد والمهدي بنبركة وغيرهم… ممن درسوا في المدارس الفرنسية وتشبعوا بالثقافة الغربية. لن يتطور الاختلاف بين الحزبين إلى اختلاف سياسي وإيديولوجي إلا مع تطور الأحداث وسعي كل حزب للتميز عن الآخر، لينتهي الأمر بأن أصبح حزب الاستقلال يمثل الفئات الواسعة في المجتمع المغربي من فلاحين وحرفيين وتجار وموظفين، بينما صنف حزب الشورى كحزب للنخبة المثقفة التي لا تتبنى الأفكار المسبقة عن الحركة الاستعمارية، وتدعو إلى التعامل مع الحماية بنوع من البراغماتية، والتدرج في المطالبة بالاستقلال.
حاوره يونس مسعودي
تتمة الملف تجدونها في العدد 40 من مجلتكم «زمان»