قبل أسابيع، اشتريت صندوقا زجاجيا. وحملته إلى شقتي. وفي اليوم الذي صوت فيه الفرنسيون لانتخاب رئيسهم. وكان يوم أحد. اجتمعت أنا والزوجة والأولاد. ووضعنا الصندوق فوق المائدة التي تتوسط المطبخ. وارتدينا أجمل ملابسنا، وتعطرنا، وأنشدنا المارسييز. ووقفنا في طابور. ومنحنا بدورنا أصواتنا. كواجب وطني. وبعد ذلك، جلسنا في الصالون نترقب النتائج. ونتابع التوقعات الأولية. وكل واحد منا يمني النفس بفوز مرشحه.
لكن فرنسا للأسف لا تعترف بكل هذا. وتعتبر أصواتنا لاغية. رغم أننا لا نتابع في شاشة التلفزيون إلا أخبارها. ولا نشاهد إلا قنواتها. وعندما تتوقف، ويعجز القراصنة على فك شيفرتها، يتحول البيت إلى مأتم. ونلجأ مضطرين إلى قمر النايل. حتى يأتي الفرج وتزول الغمة. ولا نعود إلى المغرب وإلى تلفزيونه إلا في شهر رمضان. لأداء فريضة الصوم في جو أسري يحترم تقاليدنا وعاداتنا. وذلك بتزامن مع عودة جاليتنا في المهجر، بسياراتها المحملة بالسلع والخردوات.
ولست أشقر، وسحنتي تميل إلى السمرة. وليست لي جنسية فرنسا. أما لغتها فأرطن بها بشكل يثير الضحك. لكني متأكد مع ذلك أني سليل الغاليين. وأن أجدادي الأوائل منهم. وأن دماءهم تجري في عروقي. وأتفق تماما مع رئيسنا السابق نيكولا ساركوزي حين حسم في هذا الأمر، وقال إن أجدادنا هم “الغاليون”، واضعا حدا للنقاش، كي لا يأتي من هب ودب من الأغيار والسود والعرب ويدعي أنه فرنسي أبا عن جد. ويزاحمنا في هويتنا النقية، وفي أرضنا، وفرص شغلنا. وأنا مثل ساركوزي. فالكل يعرف أن أصوله هنغارية، لكن جده غالي. ولا تسألوني، ولا تسألوه كيف. فالعرق كما تعلمون دساس. وبسبب ذلك، ألح علي الأولاد أن يدلوا بأصواتهم، وألا يتخلفوا عن هذا الموعد. أسوة بمواطنينا الفرنسيين. ولئلا يأتي وقت يشعرون فيه بالندم. ولئلا يتركوا الطريق سالكة لصعود اليمين المتطرف، إيمانا منهم بمبادئ الجمهورية، ورفضا للانغلاق. فلم أتردد، واستجبت لرغبتهم، وأحضرت لهم الصندوق الزجاجي. مع أنه كلفني الكثير، ليضعوا بداخله اسم المرشح الذي اختاروه عن قناعة. ولأني فرنسي. والفرنسي يشرب الديمقراطية والحرية والمساواة من ثدي أمه. فقد تركت لهم حرية الاختيار، ولم أتدخل، رغم أني كنت أشعر بميول صغيرتي اليمينية المتطرفة، وأنها غير راضية، وتلمح إلى أني لست فرنسيا “دو سوش” مثلها. ولا أتحدث لغتها بطلاقة. وأكتب بالعربية الفصحى زيادة. ولولا أنها من صلبي، وأنا الذي أشتري لها الدمى، لاتهمتني بالإرهاب، ولبلغت عني في السفارة. وما يخفف عني هذا اللبس الهوياتي وأزمة الانتماء هذه، هو أني لست وحدي من يعاني منها. فكثير من الآباء يعانون ما أعاني، ونجلس في المقهى كمغاربة، ونذهب إلى وظائفنا المغربية، ونمشي في الشارع ونتسوق ونتعارك كمغاربة. لكن وبمجرد عودتنا إلى بيوتنا في المساء، نجد فرنسا تنتظرنا في الداخل، بعملائها الصغار المدمنين على قناة “تيجي”، وبتلفزيونها وأفلامها وبرامجها ونقاشاتها السياسية. فنخلع المغرب ونلبسها، وننام على صوتها، وعلى توقيتها، وعلى ساعتها الإضافية. كأنه لا تكفينا ساعتنا الزائدة. وعندما نستيقظ في الصباح، نذهب إلى أعمالنا متذمرين وعابسين، وعيوننا حمراء، بسبب نعاسنا المتأخر حسب توقيت باريس وما جاورها. وعندما نرسل أطفالنا إلى المدارس الخاصة، يعلمونهم في السنة الأولى التمهيدية لغتهم الأم الفرنسية، بينما تأتي العربية، بعد ذلك، احتراما لأجدادنا الغاليين، ولدستور فرنسا.
وفي كل انتخابات، ومع كل حدث، يفتضح أمرنا، ويخرج الفرنسي الكامن فينا، ونكتشف بعضنا البعض، ونفاجأ بمدى إلمامنا بأصغر التفاصيل وبمعرفتنا الدقيقة بأسماء المرشحين والأحزاب. وأننا نعيش هناك، ونصطف، وكل واحد منا له مرشحه، وحزبه، ويمينه، ويساره. فيتابع أخباره، ويشجعه، ويحلم أنه صوت له، بينما نقاطع كل ما يجري في المغرب، ولا نتفرج في التلفزيون، ونشتم الأحزاب المغربية، ولا نعول عليها، كأي جالية مغتربة تحن إلى موطنها الأصلي ونبيذها وجبنها. لكن من يقول هذا للسيد ماكرون؟ من يخبره أني منحته صوتي، ضدا على اليمين المتطرف المنتشر في شقتي؟ ووقوفي سدا منيعا أمام تقدم ميلونشون وأنصاره من فلذات كبدي، وأني أنا من اشترى الصندوق الزجاجي من مالي الخاص. ولم أفعل ذلك تملقا لرئيس فرنسا، بل لأني مؤمن به، وبما يحمله من أفكار. ولأني أرى فيه منقذا لبلادي، ولكل ما بناه أجدادي الغاليون على مدى قرون.
ومن يقول له إن قلبي يخفق لفرنسا؟ وإني تعلمت الوطنية الفرنسية عن جدي أستريكس؟ وما زلت إلى اليوم أفتخر ببطولة قريته “الغالية”، ومواجهتها للغزاة الرومان، وما زال أولادي يشربون من نفس “وصفته السحرية”، وأطبخها لهم في نفس القِدر، وأحرص على أن تمنح لهم أيضا على جرعات في المدرسة، وفي الرسوم المتحركة، وفي الأغاني. لأني أعرف أن من لا يشربها لا يحصل على عمل محترم في المغرب، ولا يصبح تقنوقراطا في الحكومة، ولا مهندسا يشار إليه بالبنان، بل يكتفي مثلا بأن يكون شخصا فاشلا مثلي، أكتب عن أجدادي بلغة الضاد، بينما هم لا يعيرونني أدنى اهتمام، ولا يصدقونني، ولا يعترفون بأني واحد منهم، ولا يقولون لي شكرا، رغم أني شاركت في الانتخابات، واشتريت صندوقا زجاجيا، وصوت أنا وأسرتي، وأدينا واجبنا الوطني، ولم نشك أبدا في النتائج، ولم نتهم وزارة الداخلية.
حميد زيد