منذ أربعين سنة، عاش المغاربة لحظة استثنائية من تاريخهم، لحظة المسيرة الخضراء نحو الصحراء الغربية المغربية. تحركت وقتئذ آلاف مؤلفة من المغاربة نحو الصحراء لإحياء صلة الرحم وللإجابة، بشكل سلمي وحضاري، على مناورات استعمارية إسبانية هادفة إلى زرع كيان صغير، تابع لها، في قلب الصحراء المغربية.
انطلق المغاربة، زرافات زرافات من الشرق والغرب والشمال والجنوب، نحو أقصى الجنوب لاسترجاع ما سبق للاستعمار الإسباني أن احتله بقوة السلاح والنار.
اهتز الوجدان المغربي لمسألة الصحراء، ونقلها من الاهتمام الهامشي إلى «قضية مركزية» تتصدر كل القضايا الوطنية الأخرى. ومنذ تلك اللحظة، وملف القضية ما زال مفتوحا، والنزاع مع «الأطراف المعنية» ما زال قائما. أربعة عقود من «الكر والفر»، من «الحرب والهدنة»، من الاستنزاف المتبادل للطاقات المادية والبشرية، من المبارزات على الساحة الدولية، ومن الإضعاف المتبادل للمغرب وللجزائر على السواء… والنتيجة تبديد فرص بناء «المغرب الكبير»، وتضييع أمل تجاوز «الهويات الصغيرة القاتلة» لبناء الكيان الكبير الحاضن لآمال شعوب المنطقة في التنمية المستدامة والوحدة التي تتناغم مع الاختلاف، والمواطنة الخلاقة قاعدة للديمقراطية والتباري الحر.
منذ أربعين سنة، انهزم المستعمر الإسباني، فسحب جيوشه وسلم الصحراء الغربية، وفق اتفاقية دولية للمغرب. وكذلك منذ أربعين سنة، انخرطت الدولة الجزائرية كطرف معني ومعادي للمغرب.
صحيح أن الجزائر، باستثناء التناحر الدموي الذي حصل خلال معركة أمكالا (1976)، وعسكرتها لمخيمات تندوف، فإن الفاعل الظاهر هو البوليزاريو وأتباعه. وهنا مربط الفرس.
في الملحق الخاص، لهذا العدد من «زمان»، تفاصيل وتحاليل تاريخية حقوقية وجيو-سياسية، قد تثير قراءنا المحترمين أكثر. لذلك نركز اهتمامنا في هذه الافتتاحية على «روح المسيرة» ودلالاتها التاريخية.
يحسب التاريخ للملك الراحل الحسن الثاني حنكته السياسية وقدراته المتميزة كرجل دولة. فالمسيرة الخضراء، كفعل سلمي وجماهيري في ظرفية إسبانية جد خاصة، ابتكار نوعي يسجل في مناقب الملك الراحل. إلا أن شروط تحويل فكرة المسيرة إلى انفجار شعبي، لمشاعر الوطنية وحماس دفاق لبناء مغرب جديد، لم تكن لتتوفر لولا التقاء إرادات متعددة لفاعلين متعددين طامحين لبناء «مشترك جديد». منذ حصول المغرب على استقلاله سنة 1956، بل منذ أن أضحى هذا الأفق ممكنا، أي حين قبلت الدولة الفرنسية مبدأ التفاوض من أجل وضع حد للحماية، توزع الوطنيون المغاربة، وضمنهم الملكية المغربية، إلى توجهين في بناء الدولة الوطنية المستقلة. الأول توجه وطني ملكي محافظ، والثاني توجه وطني تحرري يقول بالديموقراطية ويطمح لتعاقد مع المؤسسة الملكية. اختلف التوجهان، تنازعا، ومارس كل طرف عنفه ضد الآخر، وأضعفا في النهاية بعضهما.
ظرفية «المسيرة الخضراء»، هي في العمق ظرفية الوعي المشترك بالانتقال بالسياسة، كفكر وكفعل، إلى مستوى العطاء الإنساني الخالد. هكذا تولدت لدى الطرفين القناعة المشتركة بتحويل «الوطنية المغربية» من مجرد رد فعل على احتلال للتراب الوطني من طرف مستعمر، وجب طرده، إلى بناء لوطن جديد. فتداخلت عضويا مسألة «استكمال الوحدة الترابية» بمسألة «ديموقراطية الدولة». الأفق المشترك للمسألتين هو إرساء وتدعيم أسس المواطنة المغربية. هذا هو عمق التحرك الشعبي والحماس الوطني الذي جسدته المسيرة الخضراء منذ أربعة عقود.
هل حقق المغرب أهداف المسيرة، وهل روح المسيرة ما زال نابضا؟
للحقيقة والتاريخ، نقر بأن أشواطا مهمة قطعت في هذا الاتجاه إلا أن ترددات الفرقاء، ومنهم الدولة، اتجاه متطلبات المواطنة، كما هو متعارف عليها كونيا، تهدد من حين لآخر ما تم إنجازه منذ أربعين سنة. إن أهل الصحراء الغربية مغاربة في وجدانهم وانتمائهم التاريخي. حتى المتمرسين منهم في البوليزاريو والمسيجة عقولهم بأطروحتها الانفصالية «مغاربة في حالة انتظار». ماذا ينتظرون؟ الانخراط الجدي في مسيرة إرساء المواطنة الجادة.
لقد استعملت الدولة أساليب الاستدراج والانتفاع، فظهر فشلها الذريع. لقد دبرت شؤون الصحراء المغربية، منذ 1976، وفق توجهات أمنية وانطلاقا من أن المنطقة لها طابع استثنائي. فمنحت لها امتيازات ورصدت لها ميزانيات مهمة. إلا أن الحكامة السياسية والاقتصادية ظلت عتيقة وغير منتجة لاعتمادها على شبكات زبونية، وليس على قاعدة روح المواطنة المنتجة ورابطة القانون. والتقارير الرسمية، ومنها تقرير المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، تقر بذلك. يمكن توسيع «المشترك»، الذي أسس سنة 1975، ليشمل «شباب الصحراء الغربية المغربية»، إلا أن شرط ذلك هو تجاوز الترددات والمراهنات على ضبط المجتمع بتسلط الدولة عليه. أحسن تخليد لـ«المسيرة الخضراء» هو الانخراط في «مسيرة المواطنة».
المصطفى بوعزيز
تتمة المقال تجدونها في العدد 25 من مجلتكم «زمان»