ما الذي نعرفه عن مؤسسة القضاء في تاريخ المغرب؟ كيف كان الناس يحتكمون في ما بينهم؟ كيف كان القضاة يحكمون بين الناس والسلاطين على حد سواء؟ مظاهر الرشوة والفساد وجذور خطة إصلاح العدالة واستقلالية القضاء… وغيرها من المحاور التي يجيب عنها الأستاذ سعيد بنحمادة، المتخصص في تاريخ القضاء بالمغرب.
كيف كان شكل القضاء في بداية الدولة المغربية، أي هيكلته؟
يعرَّف القضاء في تاريخ المغرب بأنه إخبار عن حكم شرعي على سبيل الإلزام، تمييزا له عن الفتوى التي هي حكم شرعي غير ملزم. ولذلك استند النظام القضائي بالمغرب، عبر التاريخ، في هيكلته وأحكامه إلى الفقه المالكي. كما استمد مكانته، ضمن شبكة النظم الدينية والإدارية، من إمارة المؤمنين (مع الأدارسة والموحدين والسعديين والعلويين)، وإمارة المسلمين (مع المرابطين والمرينيين). وهو ما ضمن للقضاء استقلاليته واستمراريته، وحال دون تأثره بالتحولات القبَلية والمذهبية والعقدية التي مست المغرب (مثلا مرحلة النفوذ الفاطمي خلال القرن 4هـ/10م).
وتكوَّن التنظيم القضائي منذ نشأته في العهود الإسلامية الأولى بالمغرب من ست مؤسسات: القضاء والشرطة الكبرى، والشرطة الصغرى، وصاحب المظالم، وصاحب الرد (القاضي الذي كانت ترد الأحكام إليه لإعادة النظر فيها)، وصاحب المدينة (العامل)، وصاحب السوق (المحتسب).
وقد لخص البعض اختصاصات القضاء في تاريخ المغرب في (رفع التهارج، ورد التواثب، وقمع الظالم، ونصر المظلوم، وقطع الخصومات، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر).
وكان “قاضي الجماعة” (وهو الاسم الغالب في تاريخ المغرب، والذي كان يسمى أحيانا، كما هو الحال بالمشرق، بـ”قاضي القضاة”) هو أعلى رتبة في النظام القضائي المغربي، متبوعا بقضاة المدن الكبرى الذين كان الواحد منهم ينعت بـ”قاضي الحضرة”، وقضاة البوادي.
هذه الهيكلة القضائية تعكس تفاوت الاختصاصات، والتراتب الذي عرفته المؤسسات القضائية، ومنها خطة الحسبة التي تعد من النظم العملية التي ميزت التنظيم القضائي في تاريخ المغرب، من خلال وظائف المحتسب، الذي هو عين القاضي وعونه في مراقبة المعاملات التجارية في الأسواق، والسلوك العام في الطرقات والمنتزهات والحمامات، وضوابط البناء والمنشآت. وتعتبر رسائل القضاء والحسبة وأحكام السوق لكل من يحيى بن عمر، وابن عبدون، والسقطي، والعقباني، والگرسيفي، مدونات مرجعية في هذا الشأن.
أما ولاية المظالم فقد اختص متولوها بالبت في الشكاوى المرتبطة بتظلمات الرعايا. وقد ارتبطت أنشطة ديوان المظالم بيوميات السلاطين. فالسلطان السعدي أحمد المنصور الذهبي مثلا كان يخصص يومي الاثنين والجمعة لذلك، في مقابل الأحد والثلاثاء في عهد السلطان المولى إسماعيل، مع الحرص على المواكبة الشخصية لتنفيذ الأحكام من قبل السلاطين.
ومن المهن القضائية الأخرى نذكر خطة العدالة، وكانت مهمة تجريح العدول وتعديلهم توكل للقاضي، من خلال التصديق على العقود التي يكتبونها، كما كان هؤلاء العدول يقومون بتقديم الشهادة أمام القضاة مقابل تعويضات.
إذن تبدو مؤسسة القضاء ثابتة وأساسية في تاريخ المغرب؟
يمكن التمييز في تاريخ القضاء المغربي بين القضاء الثابت، والقضاء المتنقل. أما الأول فهو ما كان القضاة يلازمون فيه مؤسسات الحكم. وأما القضاء المتنقل فهو ما كان مرتبطا إما بالمحلات العسكرية، أو القوافل التجارية. ولذلك تتحدث المصادر التاريخية عن قاضي المحلة وقاضي الجند الذي كان يعين من قبل السلطان. وأما قاضي الركب فقد كان من أهم الرموز المصاحبة للقافلة الحجية أو التجارية، ولا سيما تلك التي كانت تسافر بإيعاز من الدولة بدءا من المرحلة المرينية. فالقاضي محمد بن زغبوش قلده السلطان المريني قضاء الركب الفاسي لعام 703هـ/1303م. كما تولى المهمة نفسها القاضي تقي الدين عبد لله بن محمد بن عبد لله بن ميمون الهرغي في الركب الذي سافر إلى بلاد الحجاز سنة 747هـ/1346م، ولذلك سمي بـ”قاضي الركب المغربي”.
حاوره غسان الكشوري
تتمة الملف تجدونها في العدد 73 من مجلتكم «زمان»، نونبر 2019