مثلت شواهد القبور، في المغرب والأندلس، واجهة لتخليد الراحلين وعكس مستواهم الاجتماعي، مع إضفاء ورونق للتخفيف من آلام الزائرين، كما تعكس كذلك نظرة المسلمين للموت والآخرة.
تغيرت النظرة إلى الحدث التاريخي خلال القرن العشرين، حيث لم يعد الحديث عن حدث تاريخي جاهز ومحدد، بل فقط الماجرى. فالمؤرخ، بناء على تصوره وإشكاليته، هو الذي يكتشف الحدث المناسب إن لم يكن من يخترعه. لذلك، تحولت وقائع كانت تعتبر تافهة ومهملة في السابق إلى أحداث خطيرة ورئيسة. وتبعا لهذا التصور، تغيرت نوعية المصادر الممكن استغلالها في البحث التاريخي، فلم تعد الوثيقة الرسمية ولا كتب الحوليات هي المصادر الوحيدة، بل إن كل ما خلفه الانسان، مكتوبا أو منقوشا أو مبنيا أو مستعملا أو محفوظا في الذاكرة خلال فترة محددة، صار مصدرا يمكن الاستناد إليه واعتماده في التأريخ متى توفر المنهج الصارم والدقيق. في إطار هذه الرؤية الجديدة للمصدر التاريخي، يندرج اهتمامنا بالشاهدة. فما هي خصائصها؟ وما هو حجم الإرث المغربي-الأندلسي منها؟ وماذا تحمل من معطيات للباحث في التاريخ وللمجتمع وحضارته؟
أكثر من شاهدة
تتكون الشاهدة من لوح من الحجر أو الخزف أو أي مادة يوضع على القبر من أجل التعريف بصاحبه، وحفظ اسمه، ومنع اختلاطه بغيره من القبور. وبالرغم من معارضة العلماء لكل أشكال البناء والزخرفة على القبور، فإنهم تسامحوا في اتخاذ الشاهدة بناء على تأويل أثر في السنة اتخذوه دليلا، وهم في الحقيقة إنما يستجيبون ويسايرون تيارا اجتماعيا أقوى منهم. لذلك، انتشرت عادة اتخاذها في كل العالم الإسلامي.
اهتم الأندلسيون بوضع الشواهد على قبورهم منذ فترة مبكرة وأعني بذلك القرن 3هـ/9م، كما توضح إشارات ابن الفرضي الغنية والكثيرة. وانطلاقا من منتصف القرن 4هـ/10م، صار الأشخاص يعدون شواهد قبورهم في حياتهم أو ما يكتب عليها ثم يوصون بوضعها على القبر. وأقدم شهادة حصلنا عليها تتعلق بالزاهد أبي وهب العباسي الهاشمي، حيث ترك حجرا كتب عليه أبياتا وأوصى بوضعه على قبره. ثم توسعت هذه الظاهرة خلال القرون الثلاثة الموالية، وتركز اهتمام أهل المغرب والأندلس على إعداد شواهد قبورهم في حياتهم، وقد جمعنا ست عشرة شاهدة من هذا النوع وكلها شعرية إلا واحدة لأبي الطيب سعيد بن يحي الحديدي الطليطلي. ويبدو من إلقاء نظرة على محتويات هذه الشواهد أنها لم تعد مجرد وسيلة للحفاظ على هوية صاحب القبر، بل أصبحت تعج بالمشاعر الدينية المتوقدة والهموم الدنيوية. وهذا الحرص على إعداد الشاهدة ليس رغبة فقط في الشاهدة مادامت مألوفة ومضمونة من الأهل حتى دون وصية، لكنه اهتمام بمضمونها الغني بالدلالات.
محمد حقي
تتمة المقال تجدونها في العدد 82 من مجلتكم «زمان»