من الصعب تقديم المؤرخ والمستشار الملكي عباس الجراري في هذه السطور، فالرجل تحكي عنه مؤلفاته التي فاقت المائة كتاب أثرى بها الساحة الثقافية، ويسبقه صيته الذي بلغ مشارق البقاع العربية ومغاربها. تبحر الأستاذ الجراري، على خطى والده، في دروب العلم واللغة والأدب والفكر، وتقلد أرفع المناصب خلال مسيرته الطويلة التي فاقت خمسة عقود، ونال العديد من الجوائز والتكريمات. في هذا الحوار مع مجلة ”زمان”، يحكي لنا الأستاذ الجراري، وهو في عمره الـ86، حكايته الطويلة في ظل ثلاثة ملوك وقربه منهم؛ بدءا من محمد الخامس ومرورا بالحسن الثاني الذي درّس أبناءه، وصولا إلى الملك محمد السادس الذي كتب بيعته، وأصبح مستشارا له. وبالإضافة إلى الخوض في أحاديث السياسة والدبلوماسية بين مصر والمغرب، فلا يفوت عميد الأدب المغربي الحديث، هنا، عن قضايا فكرية وأدبية، وعن عوائق عاشها داخل الجامعة وخارجها.
أنت ابن العلامة عبد الله الجراري، الذي كان أستاذا للحسن الثاني وللأميرات بالمدرسة المولوية. بشكل مختصر، كيف تقدم والدك، وما هي المهام التي اضطلع بها في الحركة الوطنية؟
كان والدي من طبقة العلماء أوائل القرن العشرين، ومن الذين انخرطوا في الحركة السلفية الإصلاحية التي قادها الشيخ أبي شعيب الدكالي. وقد كانت له مواقف مشهودة في الحركة الوطنية، بحيث تزعم سنة 1930 المظاهرات التي خرجت منددة بما سمي بالظهير البربري، كما أنه هو من أبدع شعار “اللطيف“ الذي خرج الناس يرددونه في الشوارع. كان والدي، رحمها لله، لا تهمه الانتماءات السياسية ولا تغريه التيارات الحزبية، وإني أتذكر أن بيتنا كان يستقبل كل الناس من جميع الأطياف، من الشيوعيين والشوريين والاستقلاليين ومن العلماء وغير المنتمين. نال والدي شهادة العالمية من جامعة القرويين سنة 1937 في سنة ولادتي. كما يعتبر أول قارئ للقرآن الكريم في الإذاعة التي تأسست سنة .1928 وبعدما أنشأ الملك الراحل محمد الخامس المدرسة المولوية سنة 1942كلفه بمهمة التدريس والتفتيش بها، فكان مشرفا على دروس ولي العهد (الحسن الثاني) وباقي الأمراء والأميرات.
يقول الناقد الأدبي، عبد الفتاح كيليطو، إننا إذا أردنا أن نعرف أهمية ما يكتبه كاتب ما، فعلينا أن نسأله عن مرحلته الثانوية.. حدثنا عن هذه الفترة كيف قضيتها وكيف كونت شخصيتك ومعرفتك؟
درست في المرحلة الابتدائية بمدرسة “لعلو“ التي كانت بمثابة مدرسة لأبناء الأعيان، ثم انتقلت بعدها لمدرسة “Les orangers”، وهي مدرسة فرنسية، ومكثت بها سنتين .لكن بسبب بعض الأحداث التي وقعت لي والتي لها علاقة بالانتماء والعمل الوطني، اضطر والدي إلى نقلي إلى مدرسة “مولاي يوسف“ التي تخرج منها معظم الوطنيين، وتستحق الوقوف عند دورها في تاريخ المغرب الراهن. لكن أعتبر أن تكويني الحقيقي ومدرستي الأولى هي البيت، حيث جالست داخله كبار العلماء والشخصيات المغربية والعربية التي كانت تزور والدي باستمرار، إذ كنت أجلس بينهم وأتعلم منهم، ولم يكن لديهم حرج أن أستمع إلى حديثهم، بل منهم من كان يسألني عن دروسي، ويختبر مدى معرفتي باللغة والشعر والعلوم. وفي هذه الأجواء العلمية والأدبية، بدأت الكتابة مبكرا منذ المرحلة الثانوية بكتابة مقالات في جريدة العلم، وقد نشرت أول مقال سنة .1954 ويعود الفضل طبعا للوالد الذي مرّنني على تقنيات الكتابة، وشجعني في كل ما كتبت. كما أنه دفعني لتعلم الخطابة وسط جمع من الناس كيفما كانوا.
حاوره غسان الكشوري
تتمة الحوار تجدونها في العدد 112 من مجلتكم «زمان»